قبل أكثر من سنتين، حين وصل داعش، المعروف بـ«تنظيم الدولة الإسلامية» إلى ذروة قوته مع احتلال مناطق واسعة في سوريا وفي العراق، كان يخيل أن شيئا لن يوقف الحركة الإسلامية المتطرفة، من أنسال القاعدة. وبخلاف التنظيم الام، سار داعش بضع خطوات إلى الامام (او إلى الوراء، على الاقل من زاوية نظر العالم الحديث) حين أعلن رئيسه عن نفسه كخليفة، أي من يترأس كل المسلمين بصفتهم هذه، والجميع ملزمون له بالولاء الشخصي (والا فالموت).
إن سيطرة التنظيم على منطقة واسعة كان مثابة انجازه الاكبر، إذ بخلاف القاعدة، كان الحديث يدور، ظاهرا على الاقل، عن نواة دولة تعمل بناء على المباديء الاكثر أولية للإسلام، مع حرص زائد وبوحشية تعرض ببروز أكبر. في نظرة إلى الوراء، هذا الخليط على ما يبدو كان مثابة «أمسكت بالكثير فلم تمسك شيئا»، ودول المنطقة والعالم اتحدت لتدفع إلى الوراء بالموجة العكرة.
وينجح هذا الجهد من نواح عديدة، وان كان ببطء. فاحتلال الموصل، المدينة العراقية الاهم التي سقطت في يد داعش، يستمر لزمن اطول من المتوقع ولكنه يوجد في مراحله الاخيرة، والاستعدادات لاحتلال الرقة، عاصمة داعش في شمال سوريا، يشكل مرحلة متقدمة في تصفية معاقل التنظيم البرية.
ان النجاح في اقتلاع التنظيم من ارض كانت تخضع لسيطرته سيطرح السؤال عن استمرار وجوده ونشاطه المستقبلي. يبدو أن هناك ثلاث امكانيات في الافق القريب للتنظيم، وكلها محتملة بالتوازي:
أولا، معقول أن تعمق الدولة الإسلامية نشاطها الايديولوجي ـ الديني في العالم لحفظ وتنمية فكرة الخلافة الإسلامية بين المؤمنين، كبديل عن السيطرة في مجال جغرافي خاص بها، «التوطن في القلوب» بدلا من السيطرة على السكان. وسيتم هذا الجهد في كل مكان يوجد فيه مسلمون؛ في دول غربية مثلما في دول ضعيفة نسبيا في آسيا، في افريقا وفي العالم العربي.
الجهد الثاني، سيكون مشابها لجهود القاعدة، أي خلق «إرهاب عالمي» في كل مكان توجد فيه فرصة عملياتية. وسيستعين هذا الجهد بعشرات الاف مؤيدي التنظيم الذين سيصبحون لاجئين في ارجاء العالم او يعودوا إلى الديار إلى الدول المختلفة التي جاءوا منها. وفي نفس الوقت سيواصل التنظيم جهوده للارتباط بمحافل الإسلام والإرهاب المحلية، من الصين وحتى افريقيا.
أما الجهد الثالث، فسيتركز على المناطق التي تكون فيها السيطرة الفاعلة للدول ضعيفة للغاية. نماذج عن ذلك توجد منذ اليوم، في شبه جزيرة سيناء وحتى الاخيرة في ليبيا. وسيبحث التنظيم عن فرص كهذه وسيستغلها حتى النهاية بلا تردد وبكامل الوحشية المعروفة عنه. افريقيا هي قارة فيها اماكن من هذا القبيل، ولكن كما أسلفنا ليس هناك فقط.
كما يمكن للتنظيم أن يخوض معركة دموية كبيرة اخرى في الاراضي السورية، إذا ما ركز مثلا رجاله للقتال في منطقة ادلب في شمال غرب سوريا. هكذا على ما يبدو سينجح رجاله في تمديد وقت الحرب ضدهم في المنطقة في ظل استنزاف المعارضين، الذين يقفون في معارك شديدة لا تقل عن ذلك في الرقة. مهما يكن من أمر، فإن نزاع الحياة للتنظيم في العراق وفي سوريا سيستمر لزمن طويل آخر، وحتى بعد اعلان النصر عليه، حين تسقط معاقله الكبرى، سيكون للتنظيم ما يكفي من الطاقة ومن المؤمنين بطريقه في الدولتين ليواصل أعمال القتل بين الحين والاخر.
لا يوشك التنظيم على الاختفاء من مشهد الهلال الخصيب ضمن امور اخرى لان التهديد الشيعي ـ الإيراني يتسبب بمخاوف جسيمة في أوساط السنة، الذين هم الاغلبية في الرحاب، وداعش يسمح لهم بالحلم بمستقبل افضل، حين يبدو الحاضر قاسيا جدا من زاوية نظرهم.
ان الرابحين الكبار من نجاح الصراعات لهزم داعش هم الإيرانيون. فاذا كان الاتفاق النووي اعاد لهم جزء هاما من الشرعية الدولية، وسمح بالتعاون القوي والكبير مع روسيا، فإن المعارك ضد داعش تسمح لهم بان يقيموا ـ بمساعدة العالم ـ فاصلا شيعيا في قلب العالم السني. فالميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران تشارك في احتلال الموصل، المدينة التي كان سكانها سُنة تماما لن تبقى كذلك. فهذه الميليشيات ستفعل كل ما في وسعها بما في ذلك ابادة المواطنين او طردهم وجلب شيعة للاستقرار في المدينة، لان هذه البوابة للمحور الاستراتيجي عبر الرقة وحلب إلى دمشق وبيروت، وإلى الحلم الإيراني الكبير، إلى البحر المتوسط. ان نجاح الشيعة بقيادة إيرانية في خلق محور كهذا سيغير الجغرافيا الاستراتيجية للشرق الاوسط في نظر الصراع السني الشيعي والعربي الفارسي. هذا كابوس العالم العربي السني، ولكنه اهم لإسرائيل: هذا الوضع سيشكل ايضا تحديا حقيقيا لإسرائيل.
اتفاق يترك الإيرانيين وحزب الله كقوة ثابتة في سوريا، كجزء من تسوية هدفها ضمان حكم الاسد بدعم روسي مكثف، يخلق تهديدا مباشرا على إسرائيل ـ حين يكون لهذا التجمع الشيعي اتصالا بريا بإيران وربما حتى ميناء في البحر المتوسط. هذا تهديد من أجل منعه تكون حاجة لكل جهد دبلوماسي ولكن هذا لن يكفي بالتأكيد. واضح جدا أن رحلة رئيس الوزراء إلى موسكو عنيت ايضا بهذا التهديد (الذي لا يمكن له أن يتحقق دون موافقة روسية).
تركيا ومسألة الحدود الجنوبية
مسألة أخرى ومشوقة للغاية هي كيف ستتعاطى تركيا مع الوضع الناشيء على حدودها الجنوبية. فهي مشغولة اليوم في الاستفتاء الشعبي المقترب الذي يحاول فيه اردوغان نيل حكم شخصي بلا قيود. لهذا الغرض يزيد اللهيب في الشقاق مع دول اوروبا، ولكن هذا ليس التهديد الاساس للمدى البعيد على تركيا، فتجمع شيعي نشط في شمال العراق وفي سوريا هو تهديد اكثر خطورة. لقد نجحت تركيا في ان تمنح حتى الان الكابوس التركي الكلاسيكي: نشوء دولة كردية تربط الاكراد في العراق وفي سوريا مع مخرج إلى البحر المتوسط. دولة كهذه تهدد سيطرة تركيا، ذات الاقلية الكردية الكبيرة.
غير أنه بعد الاستفتاء الشعبي من شأن أنقرة أن تستيقظ على كابوس لا يقل تهديدا: تجمع شيعي ـ إيراني على جنوبها مع تطلعات لقيادة الشرق الاوسط كله. هذا تجمع يربط كارهي روح أنقرة في سوريا، وله مصلحة في الحفاظ على علاقات طيبة مع الاكراد، تجمع يغير مكانة تركيا كالجار الاكبر والاقوى على حدود سوريا والعراق. أما كيف سيؤثر هذا الوضع الجديد على سلوك أردوغان في اليوم التالي للاستفتاء الشعبي، بالتأكيد إذا ما فاز به وحقق حلمه كزعيم العالم السني، فهو سؤال بلا جواب. كل شيء مفتوح، بما في ذلك امكانية العلاقة المتجددة بين تركيا وداعش أمام العدو الشيعي المتعزز.
يعقوب عميدور
صحيفة القدس العربي