«إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف الى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى».
صدر هذا التصريح الذي عرف بـ «وعد بلفور» عن وزارة الخارجية البريطانية في 1917 وأذيع بعد ثمانية عشر شهراً من قيام الثورة العربية حين كان الشريف حسين يعتمد على تعهدات بريطانية باستقلال العرب، وكان يعتقد أن تلك التعهدات تشمل فلسطين.
خلق وعد بلفور حيرة وفزعاً عند العرب، ورأوا في التصريح انكاراً لحرية العرب السياسية في فلسطين. وكان هؤلاء، أو نخبهم الفكرية، على الأقل، يتوجسون شراً من النوايا الصهيونية ومخططاتها منذ المؤتمر الصهيوني العالمي في 1897، والتي تمثلت في الهجرة اليهودية والاستيلاء على أراض واسعة وعدد من القرى. الا ان الوعي العربي لأخطار المشروع الصهيوني ظل نخبوياً وملتبساً ولم يرقَ، عدا استثناءات محدودة، الى استيعاب التحدي الجذري الذي يطرحه على الفلسطينيين والعرب، حتى ان وايزمن تمكّن في اجتماعه بعدد من الشخصيات العربية من ازالة مخاوفهم وإقناعهم بفكرة التعاون بين العرب والصهاينة، ولم يكن مفاجئاً بروز الدعوة الى تفاهم عربي صهيوني مع انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس في 1913.
هل تمكن العرب بعد قرن كامل على وعد بلفور من بناء دولة عدل وعلم وإنتاج وكفاية اقتصادية واجتماعية وإنسانية تواجه المشروع الصهيوني وتقف لمخططاته بالمرصاد، ام ان ثمة قرناً جرى اهداره على كل المستويات واجه العرب اسرائيل ببنية حضارية مأزومة من الاجتماع الى الاقتصاد الى السياسة والعلم والفكر؟
الواقع ان العرب لم يتمكنوا طوال ذلك القرن من تجاوز التبعية للغرب على كل الصعد بدءاً بالغذاء وانتهاءً بالعلوم والتكنولوجيا والسلاح. وها هم الآن أمم مهددة بالتفكك العصبوي، مستباحة دولياً وإقليمياً، مثقلة بالديون الخارجية رازحة تحت الفقر والأمية، تبدد ثرواتها في شراء تكنولوجيا استهلاكية عقيمة.
ولم يتمكن العرب من المشاركة في انتاج العلم والحداثة انتاجاً متكافئاً مع الدولة الصهيونية التي تتفوق عليهم في الأبحاث العلمية بحيث لا يوازي انتاجهم مجتمعين، 64 في المئة من انتاجها في الدوريات الدولية المحكّمة. كما تتفوق عليهم بنسبة فلكية في تسجيل الاختراعات وفي تصدير التقنيات العالية، في حين أنه ليست للعرب جامعة واحدة مدرجة على قائمة الجامعات الـ 500 ذات المكانة المرموقة في العالم.
ولم يتوصل العرب طوال قرن من المواجهة مع الصهيونية الى بناء «أمة» او «وطن» او حتى «مجتمع» وظل التفتت القبلي يمعن في إبعادهم اكثر فأكثر عن وحدتهم القومية.
ولم يتمكنوا كذلك من اقامة دولة المواطنة والمساءلة وحقوق الإنسان، وظلت القطيعة والعدائية النمط الغالب على علاقة الدولة بالشعب، وانتهاك حقوق الإنسان سمة مميزة للمجتمعات العربية. كما لم يتمكنوا من ابداع خطاب سياسي عربي يواجه خطاب الصهيونية، فظل الفكر العربي أسير صيغه الماضوية، مثقلاً بكل ثقل التاريخ ووطأته، ولم يحسم أياً من اشكالياته التاريخية، من اشكالية القومية الى اشكالية الحداثة والتراث والغرب.
في موازاة هذا الإخفاق العربي نرى ان المبدعين الإسرائيليين موجودون في الخط الأمامي للتطويرات التقنية، وأن اسرائيل تنتقل الى اقتصاد صناعي عصري، وقد توصلت الى ادماج قدراتها العلمية والتقنية مع مقدراتها الاقتصادية، وهي مع الولايات المتحدة، الأكثر إنفاقاً على التعليم بالنسبة الى الناتج المحلي بين الدول المتقدمة، وتأتي في المرتبة الثانية بعد السويد، بعبارة أخرى تقف الجامعات الإسرائيلية على قدم المساواة مع الجامعات المتقدمة في العالم.
إن أوان أدلجة المترفين قد فات، ولم يعد أمام العرب اذا أرادوا مواجهة فعلية ولو متأخرة مع المشروع الصهيوني الذي دشنه وعد بلفور قبل مئة عام، الا ان يبادروا الى مراجعة نقدية شاملة، أشبه ما تكون بالصدمة الكهربائية، مراجعة جذرية لكل واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإيديولوجي تعيد تأسيسه من جديد وتضعهم في مواجهة متكافئة مع الصهيونية.
كرم حلو
صحيفة الحياة اللندنية