واجه المثقف القومي، بعد الحرب، واقع التفاوت بين الوعود والوقائع التي أحدثتها اتفاقية سايكس بيكو، التجزئة و”الانتداب”. فتعرّضت الجمعيات العربية المشرقية للاهتزاز أمام الوقائع الجديدة، إذ برزت، في هذه الأثناء، مهام الاستقلال الوطني، فاختار بعض مثقفي الحركة العربية القدامى والجدد التمركز على الاستقلال، عبر الوصول إلى حلٍّ تفاوضي مع الانتداب، من خلال التعاون لبناء الدولة الحديثة الليبرالية، وهو ما تجلى في توجهات “الكتلة الوطنية” السورية، مع ميل إلى فكرة الفيدرالية والنظام الليبرالي الديمقراطي. وقد لخص (المؤتمر الوطني السوري)، في مارس/آذار 1920، وعي هذه النخب المشرقية بالديمقراطية وبالآخر في الداخل والخارج، إذ أقرّ قيام “مملكة دستورية على البلاد السورية على أساس مدني نيابي، وحفظ حق الأقليات”، فامتزجت لدى هذه النخب الليبرالية الفكرة العربية بالمسألة الدستورية، وطغت على توجهها الوحدوي الصيغة الفيدرالية، والقيم الدستورية الديمقراطية، مع نظرة منفتحة على أوروبا والعالم، على الرغم من المشكلات الاستعمارية.
المثقف القومي الأيديولوجي
ظهر في الثلاثينات والأربعينات مثقفون قوميون جدد، جمعهم مؤتمر قرنايل في لبنان، في 24 أغسطس/ آب 1933، انتهى إلى تأسيس “عصبة العمل القومي”، تنظيماً يرعى هذا الاتجاه الوحدوي الذي حوّل الفكرة العربية إلى عقيدة صلبة، وإلى أيديولوجية، فكانت “العصبة” بمثابة الإرهاص بنشوء الأحزاب القومية الراديكالية التي برزت في المشرق بعد الخمسينات: البعث، وحركة القوميين العرب، فقد حملت وثيقة المؤتمر أفكاراً تجعل من العصبة المحاولة الأولى لإضفاء الطابع الأيديولوجي على الحركة القومية العربية. وعلى الرغم من أن الوثيقة لم تتحدث عن شكل دولة الوحدة المقبلة، إلّا أنها أظهرت انحيازها لقيام دولة واحدة، تضم العرب جميعاً، مع إنكارها شرعية الحدود القطرية، وتجاهلها مسألة الأقليات، مع تبنيها النقد الاشتراكي للوجه الاستعماري للحداثة الأوروبية، وأكدت بطريقة مفرطة على فكرة الهوية، مع استبطان العداء للآخر، ثم جاءت أطروحات قسطنطين زريق وكاظم الصلح ومحمد عزة دروزه، لتحول التطلع الشعبي نحو الوحدة إلى عقيدة نخبوية علمانوية، تنيط قضية الوحدة، وهي قضية الشعوب أساساً، بالنخبة طليعة للأمة، فاختزن تنظيرهم ذاك، على الرغم من الدلائل المظهرية المغايرة، عقيدة الحزب الواحد والزعيم الأوحد.
النخبة التقدمية
شهدت الفترة التي أعقبت هزيمة 1948 في فلسطين مثقفين قوميين جدداً، شكلوا استمراراً، وإن كان أكثر تصلباً للقوميين الأيديولوجيين لحقبة ما بين الحربين، وهم الذين برز دورهم، خصوصا فيما سُمّيت المرحلة “القومية التقدّمية”، في الستينات والسبعينات، بعد أن استولوا على السلطة بقوة العسكر، فصوّروا أنفسهم حملة رسالة الأمة، والمؤتمنين على مصيرها، وتقدمها، وقادة الأمة لبناء الدولة القومية الاندماجية التي لا تقبل التنوع والاختلاف. وفوق ذلك كله، فإنهم أسقطوا من اهتمامهم الحريات العامة الديمقراطية. وبالنتيجة، فرضوا أنفسهم قادةً للدولة والمجتمع، وحوّلوا “معسكرات الاعتقال” إلى الفيصل المقرّر بينهم وبين الآخرين، وصار الحديث عن الديمقراطية في مناخ الاستبداد الشامل ترفاً، يثير الهزء عندهم، أو جريمة يعاقب عليا القانون. أما (الوحدة) فلم يعد ممكنا تصورها إلاّ مشروعاً لاستيلاء قُطرٍ على آخر، أو ابتلاع دولة الأخ الأكبر دولة الأخ الصغير، وهو ما يبدو جليًا في استراتيجية نظام حافظ الأسد في سورية تجاه لبنان، ونظام صدام حسين في العراق تجاه الكويت، حمل هؤلاء القوميون نظرة سوداوية عن العالم، حينما أصبح شاغله الأساسي أمن النظام: الذي تهدّده “الإمبريالية” في الخارج، وعملاؤها في الداخل!
صحوة قاصرة
كشف انهيار الاتحاد السوفييتي، ووصول منهجه (التقدمي) في التنمية إلى طريق مسدود، كشفا فشل مشروع هذا المثقف ونظامه، فظهر نوعٌ من المراجعة النقدية في صفوف المثقفين القوميين خارج أطر النظام. وتوصل هؤلاء، إثر سلسلة من القراءات إلى اعتبار الديمقراطية الإطار السياسي المناسب لنجاح المشروع القومي، وأرجعوا فشل هذا المشروع إلى غيابها عنه سابقاً، غير أن أغلب هؤلاء المثقفين ما زالوا، في ممارساتهم السياسية، ومواقفهم الفعلية، أسيري تربتهم الفكرية القديمة وولائهم لأنظمة الاستبداد (القومي)، وهو ما يظهر جلياً في اصطفافهم إلى جانب بقايا النظم (التقدمية) الاستبدادية، ليس فقط ضد ما يسمّونها المؤامرات الإمبريالية، بل ضد المعارضة القومية الديمقراطية لهذه النظم، بذريعة وحدة الجبهة الداخلية. كما يتجلى ذلك أيضاً في نظرتهم العدائية إلى الآخر في الداخل والخارج، فبدلاً من أن ينطلقوا في علاقتهم بالعالم من معيار المصالح الحقيقية لبلدانهم، والنظر إلى العلاقات الدولية كشبكة من المصالح، تلتقي أحياناً مع مصالح بلادهم ، وتتضارب معها أحياناً أخرى، فيبحثوا عن تسوياتٍ ممكنةٍ، ضمن موازين القوى ليتجنبوا الأخطر، فإنهم يقيدون أنفسهم بسياسةٍ عدميةٍ، لا تعرف التسويات، فينطلقون من سياسةٍ ثابتةٍ، تحدّدها صورتهم الميتافيزيقية عن (الشيطان الأميركي الأكبر)، بما تفترضه من دعوة إلى الحرب والانتقام عما عداها، فغدا لديهم العداء لأميركا والغرب معياراً وحيداً لرؤيتهم للعالم ولعلاقتهم به.
ومن هنا، يأتي تلهفهم للاشتباك مع (العدو)، ولو كانت التكلفة إزالة وطن من الوجود، أو تدمير حياته الديمقراطية الدستورية، وهو ما فعلوه تجاه لبنان. ومن هنا أيضاً، يأتي تركيزهم الوحيد في رؤيتهم لأزمة العراق على العداء لأميركا، على حساب معرفة المخاطر الأخرى، كالمشروع الإيراني الطائفي التفتيتي، ومشروع جماعة القاعدة الطائفي الإرهابي.
حاولت هذه النخب دراسة عثرات تجربتها الماضية من دون نجاح، فلم تحتل الديمقراطية سوى حيز صغير في وعيها، ما يجعلها تضحي بها أمام أي منعطف، يعزّز ذلك التصاقها ببقايا الأنظمة (التقدمية)، حيث يحتل ممثلو هذه الأنظمة المقاعد الأمامية في قاعة (المؤتمر القومي العربي)، ليعكسوا رؤيتهم على أعماله. وقد كرّسوا جزءاً من نشاط مؤتمراتهم، في أثناء مشهد ثورات الربيع العربي، لمهاجمة تلك الثورات، بحجج قومجيةِ، ما أنزل الله لها من سلطان، ليصطفوا مع الثورة المضادة وأنظمة الاستبداد، وفي مقدمتها نظام الأسد. وبقي مثقف (المؤتمر القومي العربي) محافظًا على اصطفافه وراء هذا النظام، تحت شعارات العروبة والتحرر، على الرغم من تهجير هذا النظام لأكثر من اثني عشر مليونا من السوريين، وقتل مئات الآلاف، و تدمير المدينة والقرية السوريين. بل ذهب فيهم هذا الاصطفاف إلى حد تبرير عدوان إيران على الشعب السوري، وتجنيدها عشرات الألوف من الجحافل الطائفية، وجلبها معها الاستيطان الطائفي، وتقيحات المشاعر الطائفية الوسخة. ولم تقصّر هذه النخب في دعم العدوان الروسي الذي بدأ بحرب إبادة للشعب وللمدنية السوريين، منذ فبراير/ شباط 2015، لينقذ النظام من الانهيار، ولانتشال إيران من الهزيمة المحققة التي أطلت منذ تحرير إدلب وجسر الشغور، ووصوها إلى أطراف حماه في الجنوب، وعلى أطراف الصطنفة في الغرب على بعد خمسين كيلومتراً من اللاذقية. وهم الآن منهمكون في تشريع الانقلاب على الأوضاع الناشئة عن ثورات الربيع العربي في بلدان عديدة، في محاولة لمنح الشرعية المفقودة للقوى الانقلابية، حتى وصل بهم الأمر إلى توظيف عائلة الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، في هذا المنعرج العار، لينالوا من حاضر هذه العائلة وماضيها على مذبح (الفكرة القومية الاستبدادية) التي رهنوا أنفسهم للدفاع عنها، فمسحوا في الأرض كل مراجعاتهم للفكرة القومية خلال عشرين عامًا، في محاولتهم تطعيمها بالديمقراطية، فتبينت مع الأيام هشاشة هذه المراجعة، وضآلة القشرة الديمقراطية التي تَمثَّلها هؤلاء.
يقود هذا الأمر إلى استنتاج أن التيار القومي الذي يقوده (المؤتمر القومي العربي) استنزف فاعليته الفكرية، والفاعلية الشعبية المستقبلية، وسيقتصر دوره على مجموعة من (المناضلين) المتقاعدين الذين يعيشون في الماضي، وعلى بعض الأناشيد والعناوين التي تلاشى سحرها بالتقادم الزمني، وأصبحوا على طلاقٍ مع تيارات التجديد في الحاضر، ناهيك عن المستقبل، تحمل عقلية (الطائفة المذهبية) تجيد تكرار الرموز والطقوس، للحفاظ على ثبات إيمانهم بشيء انقضى، فلا يتبقى لفكرة القومية العربية سوى أن تجترح لها فكراً تجديدياً، يعيد الصلة الحية بين العروبة والشعب بمفهومه الحديث، في عناق لا ينفصل عن الحرية والديمقراطية. ولعلنا نجد براعم هذا التيار قد شرعت تبزغ بقوة من قلب التفاعلات الكبرى للحركة الاجتماعية والسياسية التي بعثتها ثورات الربيع العربي. فلعل تيار (المؤتمر القومي العربي) سيكون حالياً منشغلًا بالاحتجاج على الغارة الأميركية على المطار العسكري السوري الذي ارتكبت طائراته مذبحة الكيميائي في معرّة النعمان، أليست هذه أميركا الإمبريالية، وأليسوا أعداء الإمبريالية بكل أفعالها وأقوالها (!)، بينما يتمنى ملايين من السوريين أن تأتي صاعقةٌ من السماء، لتعاقب هذا المطار، فتأتي على ما فيه من مليشيا النظام وإيران وطائراتهم ومدافعهم وموادهم الكيميائية التي تخصَّصت خلال ست سنوات في إبادة الشعب السوري.