يبدو أن أكواب المجاملة قد جفت في لبنان وهذا جيد! إذ يتيح لنا الاطلاع على دخيلة الآخر دونما أقنعة. ففي سهرة اجتماعية في بيروت دعتني إليها صديقة قديمة قالت سيدة من أسرة لبنانية عريقة: لم يعد الحضور السوري في لبنان يطاق. عليهم الخروج من وطننا اللبناني. همست لها صديقتي مشيرة إلي: انتبهي، إنها سورية.
قالت السيدة: أعرف.. ولكن الحقيقة يجب أن تقال، وللسوريين اللبنانيين مثلها بالذات. عليها أن تعرف أن ولداً سورياً قال على مواقع التواصل الاجتماعي: «تفو عليكم يا لبنان… انتم أرانب وجرذان».. وان غير لبناني رد عليه بالمثل (وعلى أهله) وعَيّرهُم بأن السوري يعيش عالة على لبنان و»شحاذ ومشارط».
وتوقعت ان تضيف السيدة انطباعات عامة عدوانية واكتشفت غلطتي ـ فقد كانت الكارهة للحضور السوري في لبنان مزودة بالأرقام والإحصاءات.
طردوا شقيقها لتوظيف سوري مكانه!
قالت السيدة اللبنانية بغضب: ربع مليون لبناني يعيش في فقر مدقع لأن نسبة السوريين اللاجئين إلى لبنان تبلغ أعلى نسبة بين دول العالم كله مقارنة بعدد سكانه. لقد أصبح عدد (النازحين) السوريين إلى لبنان يساوي 40 في المئة من عدد سكانه ومنافسة السوري في العمل ضد اللبناني لا تطاق.
وبسبب ذلك ارتفعت البطالة لدى الشبان اللبنانيين من 15 في المئة إلى 35 في المئة ثم ان ذلك الوضع القلق جعل الاستثمارات الأجنبية تتراجع إلى النصف وبالتالي تراجع النمو من 10 في المئة إلى صفر. ثم ان حوالي مليون سوري وجدوا عملاً بدلاً من لبنانيين (طردوا بلباقة قانونية) من عملهم فالسوري يرضى براتب أقل ثم ان المؤسسة التي تستخدمه ليست مضطرة لتسجيله في «الضمان الاجتماعي» ولا حقوق له في التقاعد وذلك يوفر على رب العمل الكثير من المسؤوليات. كما ان حضور السوريين المخيف واضطرار بعضهم للنهب والسرقة جعل السائح يهرب من لبنان بنسبة النصف تقريباً.
لم أجد ما أرد به عليها في حقل الأرقام!.. كانت لدي كلمات عاطفية عن تداخل الشعبين والعلاقات الأخوية ولكن سيوف لغة الأرقام «أصدق إنباءً» من لغة العاطفة التي تنبثق من نصفي السوري. كانت السيدة مزودة بالإحصاءات إذ أضافت: بحضور السوريين صار عدد السكان في الكيلومتر المربع من لبنان أكثر من 300 أما في العالم العربي فلا يتجاوز عددهم في المساحة نفسها 29 في المئة. ثم ان لبنان أنفق حوالي 600 مليون دولار في الحقل الصحي والتعليمي ناهيك عن مئة مليون دولار بسبب (الزحف) السوري وأكثر على.. و..و..
واعترف ان بقية حضور السهرة كان يهز برأسه لكلامها مشجعاً.. وأضافت: ان عدد السياح انخفض من مليون سائح إلى ما يقارب الصفر، خوفاً من انفجار الوضع في لبنان. وأسفتُ لأنني اعرف ان السياحة بترول لبنان. وأضافت لي بعدوانية: وفوق ذلك كله انتم تحاربون بعضكم بعضاً في سوريا وتجرون فئة منا إلى حروبكم ويزداد عدد النازحين إلينا! ولطالما زعمتم ان السلاح موجه للعدو الذي احتل فلسطين!
حرب النكات… والنكتة قضية جدية!
سمعت الكثير من النكات ضد السوريين في رحلتي الأخيرة هذه إلى بيروت وأقلقني ذلك، فالنكتة السياسية تعبير عن ضيق عام، ومن تلك النكات ان سيدة لبنانية قالت لزوجها اللبناني مثلها: لماذا صرت تتحدث باللهجة السورية؟
أجاب: لكي أجد عملاً!!
وما أكثر النكات التي سمعتها حول النزوح السوري الذي فاق بمراحل اللجوء الفلسطيني بعد النكبة حين توزع الهاربون من (النازية الإسرائيلية) على الأقطار العربية.
اطالع في الصحف اللبنانية بعض العناوين من نمط «الصرف يلاحق العمال اللبنانيين لصالح السوريين» وأحزن مرتين، مرة للسوري المضطر للعمل بشروط نصف عادلة ومرة أخرى للبناني الذي يفقد عمله ورزق أسرته.. وبالتالي لن يملك إلا كراهية السوري على نحو عفوي بصفته (المحتل) سارق لقمته بعدما سرق حريته كما يقول تحت اسم (الردع) قبل عقود أيام ما كان يدعى بـ»الاحتلال السوري».
هذه المرة تحول الحضور السوري من مصدر للتذمر إلى مصدر للنقمة العلانية والكراهية وحتى الشجار..
بين نصفي السوري والآخر اللبناني!
لم يعد السوريون النازحون يطيقون تذمر اللبنانيين من حضورهم فهم اختاروا أهون الشرين، لبنان او المراكب الغامضة اللعينة التي قد تقودهم إلى الغرق على شواطئ أوروبا. وكانت صديقتي اللبنانية تقود سيارتها وأنا إلى جانبها حين اندفع طفل في حوالي الخامسة من العمر امامها عند الإشارة الخضراء/الحمراء في شارع الحمرا وكادت المسكينة تدهس الطفل المسكين أيضاً لكنه تمالك نفسه وتسول منها بلهجة سورية كمن أنف ذلك.. وعلى الرصيف أمه التي تشجعه! صديقتي اللبنانية صاحت بأمه مؤنبة نصف شاتمة.. وردت عليها السورية: بدلاً من الأذى ادفعي له تعويضاً واحمدي ربك لأنه لم يُدهس تحت عجلاتك..
تشاتمتا واعتذرت مني صديقتي لكنها شتمت السورية وحضورها في لبنان واستعمالها لطفلها كوسيلة للتسول.. جزئي السوري دمع لفاقة تلك السورية التي تكاد تضحي بابنها من أجل اللقمة لبقية الأسرة!.. وحزنت على عزيز قوم ذلّ!
متى يتوقف ذلك كله؟
ما أسعد إسرائيل بأعداء مثلنا: ترى أما زلنا نكره إسرائيل بأكثر مما يكره بعضنا بعضاً؟
القدس العربي