مفاجأة بريطانية: وقف مد الترامبية وتقدّم اليسار

مفاجأة بريطانية: وقف مد الترامبية وتقدّم اليسار


على عكس الفوز الساحق الذي كانت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي تنتظره، والتفويض الذي كانت تأمل به من الشعب البريطاني، أظهرت الانتخابات البريطانية، التي أعلنت نتائجها أمس، ميلاً شعبيّاً كبيراً لوقف المدّ اليميني الذي بدأ مع إعلان نتائج الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في مثل هذا الشهر من العام الماضي.
كشفت الانتخابات خسارة حزب المحافظين الأغلبية المريحة التي كان يتمتع بها بعد انتخابات عام 2015 مما اضطره للتحالف مع حزب الديمقراطيين الوحدويين الأيرلندي لتشكيل حكومة، كما بيّنت توطّد خطّ اليسار ضمن حزب العمال وشعبية برنامج قائده جيريمي كوربين الانتخابي رغم الحملات السياسية والإعلامية عليه من كافة الأطياف السياسية والإعلامية (بما فيها الكثير من نواب حزبه في البرلمان) والتي شكّكت كلها في قدرته على قيادة الحزب بل وأكّدت أن هذه الانتخابات ستكون نهاية حياته السياسية عمليّاً. فتح استفتاء خروج بريطانيا من أوروبا عام 2016 الباب عمليّاً لظاهرة عالمية كان انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجلّيها الأكبر وهو ما أسهم، على الأغلب، في ردود أفعال متعاقبة في أمريكا نفسها، وفي أوروبا، حيث بدأت أشكال الترامبية المتنوعة هذه (والتي أعلنت عن نفسها في أحزاب اليمين المتطرّف والدعوات للخروج من الاتحاد الأوروبي والتقارب مع روسيا والعداء للأجانب والمسلمين خصوصاً) بالتراجع في النمسا وهولندا وفرنسا وصولاً إلى النتائج الأخيرة للانتخابات البريطانية.
ولعلّ أجلى صور هذا التراجع كانت في الذوبان السريع لحزب «الاستقلال» البريطاني UKIP الذي يرتبط مؤسسه نايجل فراج بعلاقة وثيقة مع ترامب، حيث تلاشى تماماً من المشهد الانتخابي فلم يستطع الحصول على أي كرسي في البرلمان وأعلن رئيسه بول ناتال الاستقالة أمس.
إضافة إلى خسارة المحافظين الكثير من المقاعد التي فازوا بها سابقا فإن عدد المقاعد الجديد حتى لا يعبّر فعليّاً عن حقيقة الاستقطاب الهائل الذي جرى في بريطانيا والذي انعكس في تقارب الأصوات في الكثير من المناطق الانتخابية وفي تغيّرات غير مسبوقة، أحد أسبابها قلق البريطانيين من الوضع الاقتصادي الذي بدأت البلاد تنحدر إليه بعد الاندفاعة غير المحسوبة لقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، والتي ما كان يمكن أن تحصل لولا أن غذّاها تيّار اليمين العنصري بشعارات ووعود شعبوية منها «استعادة» الأموال التي تذهب إلى الاتحاد الأوروبي وضخها في القطاع الصحّي (وهي كذبة كبرى فضحها اعتراف نايجل فراج في اليوم التالي للاستفتاء!)، ووقف تزايد عدد المهاجرين الأجانب (وهي كذبة أخرى كشفها عدم قدرة المحافظين على تحقيقها)، وأيضاً وعود الرخاء والاستقرار الاقتصادي والسياسي، وكلّ هذه الوعود تبخّرت في الهواء.
وكما احتجّ البريطانيون عموماً على المسار الذي بدأ باستفتاء 2015 وأعلنوا، عبر التصويت للعمال، والليبراليين الديمقراطيين، والحزب الوطني الاسكتلندي، ولحزب الخضر، وشن فين، عن رغبتهم في طريق مغاير، فقد أدلى الاسكتلنديون بدلوهم في تصويت رمزيّ مشابه على رفض الانفصال عن بريطانيا عبر نزعهم الأغلبية السابقة التي كانت زعيمة الحزب الوطني الاسكتلندي نيكولا ستورجن وتصويتهم بكثافة للأحزاب البريطانية العامة: المحافظين والعمال. بدلاً من الخطّة المأمولة لتيريزا ماي التي كانت تتوقّع صعوداً مطرداً لحياتها السياسية، يناظر، أو يتفوّق ربما، على نظيرتها الراحلة مارغريت ثاتشر، فإن الذي حصل هو فشل تاريخيّ لها، والأسوأ من ذلك، أن هذه الانتخابات أعطت منافسها، الذي كان حزبه يعاني من تصدّعات داخلية تكاد تودي به، انبعاثة مفاجئة من الرماد ليبدأ، على عكسها، مشوار قيادة جديدة واعدة لحزب العمال.

القدس العربي