من الواضح -بشكل متزايد- أن الرئيس الأميركي دونالد ترمبيمثل انحرافا حين يتعلق الأمر بتوقعات أميرك وسلوكها العالمي. ونتيجة لذلك، لم تعدواشنطن تلعب الدور الدولي الرائد الذي ميز سياستها الخارجية لمدة ثلاثة أرباع قرن، خلال إدارة الديمقراطيين والجمهوريين على السواء.
وقد رأينا بالفعل أمثلة كثيرة لهذا التغيير. إن الالتزام الأميركي التقليدي بالمنظمات العالمية قد حلت محله فكرة “أميركا أولاً”. فالتحالفات الأمنية -التي اعتُبرت في وقت ما بمثابة ضمانات- أضحت تتوقف بشكل متزايد على مدى إنفاق الحلفاء على الدفاع، وما إن كان ينظر إليهم على أنهم يستمدون فائدة غير عادلة من التجارة مع الولايات المتحدة.
وعلى نطاق أوسع، يُنظر إلى التجارة الخارجية بشبهة كونها مصدر فقدان للوظائف، بدلا من أن تكون محركا للاستثمار وخلق فرص العمل والنمو والاستقرار. وقد أصبحت سياسات الهجرة واللاجئينأكثر تقييدا. وهناك فتور بخصوص دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وسيُنفق المزيد من الدولارات على قطاع الدفاع، لكن مع تخصيص موارد أقل لدعم الصحة العالمية أو التنمية.
“الالتزام الأميركي التقليدي بالمنظمات العالمية قد حلت محله فكرة “أميركا أولاً”. فالتحالفات الأمنية -التي اعتُبرت في وقت ما بمثابة ضمانات- أضحت تتوقف بشكل متزايد على مدى إنفاق الحلفاء على الدفاع، وما إن كان ينظر إليهم على أنهم يستمدون فائدة غير عادلة من التجارة مع الولايات المتحدة”
لا ينبغي الخلط بين ذلك وبين الانعزالية. فستستمر إدارة ترمب في لعب دور هام في العالم. كما أنها ستستخدم القوة العسكرية في الشرق الأوسط وأفغانستان، مما يزيد الضغط الدبلوماسي علىكوريا الشمالية لكبح جماح برامجها النووية والصاروخية.
كما سيعاد التفاوض بشأن اتفاق أميركا الشمالية للتجارة الحرة معكندا والمكسيك. وستبقى سياسات الولايات والمدن والشركات الأميركية ملتزمة بتغير المناخ، رغم قرار ترمب بالتخلي عن اتفاق باريس للمناخ.
ومع ذلك، هناك تحول من عالم العلاقات المهيكلة والمؤسسات الدائمة -التي تهيمن عليها الولايات المتحدة- إلى شيء آخر. بيد أن هذا البديل سيظل غير معروف إلى حد كبير. ما نعرفه هو أنه لا توجد قوة عظمى بديلة مستعدة وقادرة على التدخل والاضطلاع بالدور الذي كانت تلعبه الولايات المتحدة.
الصين مرشحة لتقود العالم فترات متعددة، لكن قيادتها ستركز في الغالب على تدعيم النظام المحلي، والحفاظ على معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي بشكل مصطنع لمنع الاضطرابات الشعبية. ويبدو أن الغرض من اهتمام الصين بالمؤسسات الإقليمية والعالمية هو في الغالب تعزيز اقتصادها وتأثيرها الجيوسياسي، بدلا من المساعدة في وضع القواعد وإيجاد ترتيبات مفيدة على نطاق واسع.
وبالمثل، فإن روسيا دولة ذات اقتصاد محدود تقوده حكومة تركز على الاحتفاظ بالسلطة في الداخل، وإعادة تأسيس النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وأوروبا. والهند منشغلة بالتحدي المتمثل في التنمية الاقتصادية وبعلاقتها المعقدة مع باكستان. كما تعاني اليابان من تراجع سكانها، والقيود السياسية والاقتصادية المحلية، وشكوك جيرانها.
أوروبا -من جانبها- منقسمة بسبب الأسئلة المحيطة بالعلاقة بين الدول الأعضاء والاتحاد الأوروبي. ونتيجة لذلك، فإن القارة ككل أقل من مجموع بلدانها، لا يوجد بها بلد شاسع يضاهي اتساع ونجاح أميركا على الساحة العالمية.
لكن غياب خليفة واحد للولايات المتحدة لا يعني أن الفوضى ستعم. على الأقل من حيث المبدأ، يمكن لأقوى دول العالم أن تجتمع لتُعوض أميركا. ومع ذلك، فإن هذا لن يحدث عمليا، حيث إن هذه البلدان تفتقر إلى القدرات والخبرات؛ وقبل كل شيء، تفتقر إلى توافق في الآراء بشأن الخطوات التي يجب القيام بها ومن يحتاج إلى القيام بذلك.
والتطور الأكثر احتمالا هو ظهور مزيج من النظام والاضطراب على الصعيدين الإقليمي والعالمي. وستشجع الصين مختلف أصناف التجارة والهياكل الأساسية وآليات الأمن في آسيا. ويجوز للدول الـ11 الباقية من الشراكة عبر المحيط الهادئإبرامُ اتفاقات تجارية دون الولايات المتحدة.
“غياب خليفة واحد للولايات المتحدة لا يعني أن الفوضى ستعم. على الأقل من حيث المبدأ، يمكن لأقوى دول العالم أن تجتمع لتُعوض أميركا. ومع ذلك، فإن هذا لن يحدث عمليا، حيث إن هذه البلدان تفتقر إلى القدرات والخبرات؛ وقبل كل شيء، تفتقر إلى توافق في الآراء بشأن الخطوات التي يجب القيام بها ومن يحتاج إلى القيام بذلك”
والأقل وضوحا هو ما إن كانت الصين مستعدة لاستخدام نفوذها لكبح جماح كوريا الشمالية، وكيف ستتجنب الهند وباكستان الصراع؟ وكيف ستُحل النزاعات الإقليمية العديدة في آسيا؟ إنه من السهل جدا تخيل مستقبل آسيوي ومحيطي يتميز بزيادة الإنفاق على الأسلحة بجميع أنواعها، وبالتالي سيصبح أكثر عرضة للصراعات العنيفة.
ويعاني الشرق الأوسط بالفعل من عدم استقرار لم يسبق له مثيل، نتيجة للمنافسات والحقائق المحلية، ونتيجة لخمسة عشر عاما حاولت أثناءها الولايات المتحدة جاهدة تشكيل مستقبل المنطقة. ويكمن الخطر القادم ليس في مجرد مزيد من التدهور في الدول الفاشلة مثل اليمن وسوريا وليبيا، ولكن أيضا في احتمال نشوب صراع مباشر بينالسعودية وإيران.
قد تُعد أوروبا استثناء، حيث إن انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون في فرنسا قد أدى إلى تعيين حكومة ملتزمة بإصلاح الاتحاد الأوروبي. لكن الاتحاد الأوروبي نفسه يواجه مستقبلا غير مؤكد، نظرا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والأزمات البطيئة في إيطاليا واليونان، ناهيك عن احتمال حدوث المزيد من الأذى الروسي أو ما هو أسوأ من ذلك.
وإضافة إلى كل هذه الأحداث؛ لا ينبغي أن ننسى الوضع المنهار في فنزويلا، والأهوال المألوفة في جنوب السودان، وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية. ومن ثم هناك فجوة متزايدة بين التحديات العالمية -مثل كيفية التحكم في الفضاء الإلكتروني- ورغبة الحكومات في العمل معا للتصدي لها.
وهناك ما يدعو للسخرية في هذا التحول العالمي للأحداث. فعلى مدى عقود، انتقدت عدة دول سياسة الولايات المتحدة، على ما كانت وما لم تكن عليه. والآن تواجه هذه البلدانُ نفسُها احتمالَ وجود عالم من المرجح أن يتراجع فيه حضور القيادة الأميركية. وليس من الواضح أبدا أن هذه الدول مستعدة لمثل هذا العالم، أو أنها ستصبح أفضل حالا.
ريتشارد ن.هاس
الجزيرة