رغم السلطات الواسعة التي يحظى بها المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي، إلا أن ذلك لم يحل دون نشوب خلافات عديدة بينه وبين رؤساء الجمهورية المتعاقبين، واتجه معظمهم لتوسيع نطاق صلاحياته، مستندا في هذا السياق إلى اعتبار أنه منتخب مباشرة من قبل الشعب، عكس بعض المناصب الأخرى التي يتولاها أصحابها من خلال التعيين أو الانتخاب غير المباشر، ومن بينها منصب المرشد نفسه.
لذا ظهرت مبادرات عديدة سعت إلى إنهاء هذه الخلافات، والتي مثلت مشكلة مزمنة منذ عهد الخميني، أدت أحيانا إلى اندلاع أزمات حقيقية داخل النظام.
ودعا بعض نواب مجلس الشورى الإسلامي، في 2 أكتوبر لتغيير النظام السياسي من رئاسي إلى برلماني، بشكل يؤدي مستقبلا إلى إلغاء منصب رئيس الجمهورية واستبداله بمنصب رئيس الوزراء الذي ينتخب في هذه الحالة من خلال نواب مجلس الشورى.
في هذا السياق، قال رئيس لجنة صياغة القوانين في البرلمان عزت الله يوسفيان ملا إن مجموعة من البرلمانيين سوف يوجهون رسالة إلى المرشد لدعوته إلى المطالبة بإجراء تعديلات في الدستور في هذا الشأن، وبذلك تحولت المبادرة إلى ما يشبه “كرة الثلج”، مخلفة ردود فعل متباينة بين مؤيد ومعارض لها.
وزعم بعض المؤيدين لهذه المبادرات أن النظام البرلماني مناهض للدكتاتورية، باعتبار أن رؤساء الجمهورية كانوا يسعون دائما إلى تكريس نفوذهم والحصول على صلاحيات أكبر، ومنهم من طالب بتقليص صلاحيات مجلس الشورى نفسه، على غرار الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، الذي نشبت خلافات عديدة بينه وبين المرشد، رغم أنه كان أحد المقربين منه، بسبب تطلعه إلى زيادة سلطاته التنفيذية ودعمه لتيار كان يتبنى فكرة العودة القريبة للإمام التي كانت تضعف موقع المرشد باعتبار أن تلك العودة تعني انتفاء الحاجة إلى منصب الأخير.
واعتبر معارضون للفكرة، ومعظمهم من تيار الإصلاحيين والمعتدلين بشكل عام، أن هذا التغيير يؤدي إلى تقليص دور المؤسسات المنتخبة داخل النظام، ويعزز نفوذ الراديكاليين، بمعنى أنهم يتخوفون من أن يسفر ذلك عن الإطاحة بهم خارج مؤسسات النظام.
واللافت للانتباه أن المرشد خامنئي نفسه كان أول من طرح تلك المبادرة، في أكتوبر 2011، عندما ألمح إلى إمكانية الاستناد لهذا الخيار في حالة ما إذا رأى أن ذلك يصب في مصلحة النظام.
مثل هذه المبادرات تهدف إلى اختزال أزمات النظام في موقع الرئيس الذي يتم تحميله مسؤولية أي مشكلة
نظام مختلف
ثمة ملاحظتان ينبغي أخذهما في الاعتبار؛ الأولى أنه لا يمكن توصيف نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنه رئاسي صرف أو برلماني بحت على غرار الأنظمة السياسية المتعارف عليها في العالم، مثل النظام الأميركي أو البريطاني أو الفرنسي.
وهذا نظام يتسم بخصائص غير موجودة في تلك الأنظمة، مثل موقع المرشد الذي يستند إلى قاعدة دينية وسياسية غير دارجة في مثل تلك الأنظمة، ومثل حالة الازدواجية التي تجعل من كل مؤسسة داخل النظام بمثابة ظل أو رقيب على مؤسسة أخرى، على غرار مجلس صيانة الدستور ومجلس الشورى (البرلمان)، والحرس الثوري والقوات المسلحة.
والملاحظة الثانية، أن مثل هذه النوعية من المبادرات تهدف إلى اختزال أزمات النظام في موقع الرئيس، الذي يتم تحميله، في كل الأحوال، المسؤولية عن أي مشكلات يواجهها النظام، على غرار ما يحدث الآن مع الرئيس حسن روحاني، الذي يتعرض لضغوط قوية واتهامات بتقديم تنازلات كبيرة في الاتفاق النووي المبرم مع الدول الكبرى.
في حين لا يتسامح مع المعطيات الموجودة، التي تشير إلى أن الأزمة الحقيقية تكمن في موقع المرشد ذاته، الذي يحظى بصلاحيات كبيرة يستطيع من خلالها عرقلة برامج الرئيس، خاصة أن تلك الصلاحيات تصل إلى المستوى التنفيذي الذي من المفترض أن يكون من صميم سلطات الأخير.
ويمكن أن نشير إلى فشل معظم رؤساء الجمهورية المتعاقبين في تنفيذ سياساتهم، بل واتجاه بعضهم إلى محاولة التمرد على هذا الوضع، مثل أحمدي نجاد، الذي اعتكف في منزله، في أبريل 2011، لمدة عشرة أيام، احتجاجا على إلغاء المرشد لقراره بإقالة وزير الاستخبارات حيدر مصلحي من منصبه.
كان ذلك أحد الأسباب التي دفعت مجلس صيانة الدستور، المكلف بالبت في ملفات المرشحين للانتخابات المختلفة، إلى رفض ترشيح أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في 19 مايو 2017 وأسفرت عن فوز حسن روحاني بفترة رئاسية ثانية.
الأزمة الحقيقية تكمن في موقع المرشد ذاته، الذي يحظى بصلاحيات كبيرة يستطيع من خلالها عرقلة برامج الرئيس
مغزى التوقيت
تكتسب المبادرة الجديدة التي طرحت لتغيير النظام الإيراني من رئاسي إلى برلماني أهميتها من توقيتها، لأنها تأتي في وقت تتصاعد فيه حدة الخلافات بين المؤسسات والتيارات السياسية المختلفة التي تعمل من داخل النظام، خاصة حول الاتفاق النووي والعلاقات مع الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة، فضلا عن الملفات الداخلية التي يتمثل أبرزها في الإقامة الجبرية المفروضة على قائدَي حركة الاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2009، وهما مير حسين موسوي، الذي كان آخر رئيس للوزراء قبل إلغاء المنصب في عام 1989 بعد خلافاته العديدة مع المرشد خامنئي الذي كان رئيسا للجمهورية آنذاك، ومهدي كروبي رئيس مجلس الشورى الأسبق.
كما أنها تتوازى مع اتساع نطاق الجدل داخل إيران حول من يخلف خامنئي في منصبه، وهو السؤال الذي مازال بلا إجابة حتى الآن، في ظل حالة التعتيم التي يفرضها النظام على هذه القضية، رغم أن بعض الشخصيات الرئيسية أشارت إلى أن النظام بدأ يستعد لذلك.
وقال رجل الدين المتشدد أحمد خاتمي، في الـ4 من مارس الماضي، إنه تم تشكيل لجنة سرية لاختيار مرشحين من كبار المرجعيات الدينية لخلافة خامنئي، وأنه تم تحديد بعض الأسماء التي لم يطلع عليها سوى المرشد نفسه.
وتبدي المؤسسات المحسوبة على تيار المحافظين المتشددين، تخوفات من احتمال اتجاه الإصلاحيين والمعتدلين إلى محاولة ممارسة ضغوط من أجل إشراكهم في صياغة الترتيبات والتغييرات السياسية التي قد يشهدها النظام خلال المرحلة القادمة، مع تزايد نفوذهم داخل مجلس الشورى ومجلس خبراء القيادة ووصول مرشحهم، وهو حسن روحاني، إلى منصب رئيس الجمهورية.
ويسعى المحافظون إلى محاولة تقييد هامش الحركة المتاح أمام المعتدلين في هذا السياق، تمهيدا للاستفراد بعملية اختيار خليفة لخامنئي، بشكل يزيد من احتمالات إقدامهم على الإطاحة بالتيار الأخير من تلك المؤسسات أو على الأقل إضعاف نفوذه بشكل كبير خلال الانتخابات القادمة، على غرار ما حدث في بعض الانتخابات السابقة، استنادا إلى مقصلة مجلس صيانة الدستور الذي يسيطرون عليه.
ويحاول المتشددون عبر مبادرات تغيير النظام من رئاسي إلى برلماني إلغاء منصب الرئيس واستبداله بمنصب رئيس الوزراء الذي يتم اختياره من قبل نواب مجلس الشورى، الذي من المرجح أن يخضع لسيطرتهم في المرحلة القادمة، بكل ما يعنيه ذلك من تكريس لنفوذهم داخل النظام وتعزيز قدرتهم على اختيار الولي الفقيه القادم.
محمد عباس ناجي
صحيفة العرب اللندنية