بعد أيام من خطاب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في البرلمان التركي، في افتتاح الدورة التشريعية الجديدة، مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2017، والذي أعلن فيه عزم بلاده على إنشاء منطقة آمنة في محافظة إدلب شمال غرب سورية، هدمت دبابات تركية الجدار الحدودي الفاصل بين الأراضي السورية والتركية، ودخلت قواتٌ من فصائل المعارضة السورية المنضوية تحت غرفة عمليات “درع الفرات”، برفقة وحدات عسكرية تركية، معزّزة بآليات عسكرية؛ وذلك لإقامة نقاط مراقبة لتنفيذ منطقة خفض التوتر في محافظة إدلب.
ترتيبات التدخل التركي
جاء التدخل العسكري التركي الثاني في صورته المباشرة في سورية، بعد أن تم التوصل، خلال الجولة السابعة من مفاوضات أستانة في منتصف أيلول/ سبتمبر 2017 إلى اتفاق تفصيلي بين الدول الراعية للمفاوضات (روسيا وتركيا وإيران)، على إنشاء منطقة خفض التوتر في محافظة إدلب، تضمّن خرائط تفصيلية لمواقع انتشار قوات من الدول الراعية للاتفاق ونقاط تمركزها، بحيث تنتشر قوات تركية في نقاط داخل المحافظة، في حين تنتشر قوات روسية في نقاط خارجها.
وكانت الدول الثلاث توصلت مطلع أيار/ مايو 2017، خلال الجولة الرابعة لمفاوضات أستانة إلى اتفاقٍ على إنشاء أربع مناطق لخفض التوتر، تشمل أجزاء من ثماني محافظات، على امتداد الشريط الغربي من البلاد، دخل حيز التنفيذ في السادس من الشهر نفسه. لكن الاجتماعات التالية لم تنجح إلا في الاتفاق على ترسيم حدود المنطقتين الخاصتين بالغوطة الشرقية قرب دمشق ومنطقة شمال حمص، وفشلت في التوصل إلى اتفاق بين روسيا وتركيا حول حدود المنطقة الشمالية (إدلب وأجزاء من محافظات حماة وحلب واللاذقية)، وبين روسيا وإيران حول حدود المنطقة الجنوبية (أجزاء من محافظات درعا والقنيطرة والسويداء). لكن المنطقة الجنوبية أخرجت من إطار عملية أستانة، ووضعت تحت مظلة الاتفاق الروسي – الأميركي الذي جرى التوصل إليه على هامش قمة مجموعة العشرين بين الرئيسين، دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، في تموز/ يوليو 2017، وبذلك جرى استبعاد إيران منها. وبات الإشراف على منطقة خفض التصعيد في الشمال من الجانبين، الروسي والتركي، بينما آلت إلى الجانب الأميركي والروسي، وكذلك الأردني، مهمة تنفيذ الاتفاق والإشراف عليه في جنوبي البلاد، في بعض أجزاء محافظتَيْ درعا والقنيطرة.
وقد بدأ تنفيذ الخطة الخاصة بإدلب، والتي اتفق عليها في جولة أستانة السابعة، بعد إزالة
العقبات التي كانت تعترضها، وذلك في لقاء القمة الذي جمع الرئيسين، بوتين وأردوغان، في أنقرة أواخر أيلول/ سبتمبر 2017، واتفق فيه الجانبان على التعاون على إنشاء منطقة خفض التصعيد في إدلب، وإنهاء سيطرة هيئة تحرير الشام فيها. كما جاء التدخل التركي في إدلب متسقًا مع تصاعد التنسيق السياسي والعسكري مع إيران؛ إذ زار الرئيس أردوغان طهران، قبل أيام فقط من إطلاق عملية إدلب، برفقة وفد عسكري كبير، جرى خلالها بحث أوجه التعاون بين البلدين، بما في ذلك إمكان القيام بعمليات عسكرية مشتركة، اقترحها رئيس الأركان الإيراني، محمد باقري، خلال زيارة إلى تركيا في شهر آب/ أغسطس الماضي، كانت الأولى لمسؤول عسكري إيراني على هذا المستوى منذ عام 1979. وقد مثل القلق من صعود الطموحات الكردية، المدعومة أميركيًا، نقطة تلاقٍ تركية – إيرانية، بدت ملامحها واضحةً في تنسيق كبير بين البلدين في سورية والعراق، لمنع الأكراد من إقامة دولة مستقلة، تنعكس على الداخلين التركي والإيراني.
أهداف العملية التركية
تمثل محافظة إدلب أهمية خاصة لأنقرة، وقد جاءت العملية العسكرية التي أطلقتها مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الجاري في إطار مسار أستانة، وباتفاق وتنسيق كاملين مع روسيا وإيران، لتحقيق جملة أهداف، أهمها:
• احتواء الكانتون الكردي القائم في منطقة عفرين على الحدود مع تركيا، وقطع طريق تمدُّدِه جنوبًا باتجاه محافظة إدلب، ومنها إلى البحر المتوسط، بحجة مواجهة تنظيم هيئة تحرير الشام. وتتخوَّف أنقرة من دفع الولايات المتحدة قواتٍ من وحدات حماية الشعب الكردية، الجناح العسكري للحزب الديمقراطي الكردي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني) الموجودة في عفرين، إلى التوجه إلى إدلب، بحجة القضاء على هيئة تحرير الشام والسيطرة عليها، في تكرار لسيناريو الرقة ومنبج وغيرهما من المناطق التي تمدّد فيها الأكراد بدعم أميركي في شمال سورية وشرقها. وتعد هذه العملية الثانية التي تشرف على تنفيذها تركيا لمنع اتصال مناطق الأكراد جغرافيًا، ومنع احتمال قيام دولة كردية على امتداد حدودها الجنوبية مع سورية. ففي آب/ أغسطس 2016، استغلت تركيا تقاربها مع روسيا الذي أعقب المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد حكومة الرئيس أردوغان، وأرسلت دبابات وقوات خاصة مدعومة بغطاء جوي، لمساندة هجوم لفصائل المعارضة السورية على مدينة جرابلس الحدودية في إطار عملية درع الفرات. وفور استعادة المدينة من تنظيم الدولة الإسلامية، وجّهت تركيا إنذارًا أعطت فيه قوات سورية الديمقراطية، والتي تمثّل وحدات حماية الشعب الكردية عمودها الفقري، مهلة ثلاثة أيام لسحب قواتها إلى شرق نهر الفرات، بعد أن تمكّنت بدورها، وبغطاء جوي لقوات التحالف الدولي، من استعادة مدينة منبج، ذات الأهمية الاستراتيجية من تنظيم الدولة. وقد تمكّنت عملية درع الفرات من السيطرة على نحو ألفي كيلومتر مربع، في مثلث من الأراضي يمتد بين جرابلس والباب وإعزاز.
• منع سيطرة قوات النظام السوري على إدلب؛ إذ نقل النظام، خلال سنوات من المواجهة مع قوات المعارضة، كل من كان يرفض الدخول في مصالحات محلية إلى إدلب، كما حصل مثلًا مع فصائل داريا وبرزة ومناطق في حمص وغيرها، وصارت وسائل إعلام النظام وحلفائه
تشير إلى إدلب بوصفها إمارة إسلامية. وقد عزّز هذا الانطباع سيطرة هيئة تحرير الشام على أغلب المحافظة خلال تموز/ يوليو الماضي، بعد مواجهاتٍ مع الفصائل المعارضة المعتدلة، وفي مقدمها حركة أحرار الشام. وكانت استراتيجية النظام تقوم على تجميع هؤلاء المقاتلين مع عائلاتهم في إدلب، والتفرّغ بعد ذلك للقضاء عليهم بمساعدة دولية وإقليمية، على اعتبار أن العالم لن يقبل بوجودهم، وسوف يتم التعامل معهم، كما تم التعامل مع تنظيم الدولة الإسلامية. وجاء التدخل العسكري التركي ليلغي احتمال هجوم عسكري لقوات النظام بدعم روسي – إيراني على إدلب، والحفاظ، من ثم، على آخر محافظةٍ تسيطر عليها قوات المعارضة التي شهدت مناطق سيطرتها تراجعًا كبيرًا خلال العامين الأخيرين، بعد التدخل العسكري الروسي، فالنظام كان وما زال يسعى إلى حل عسكري للصراع في سورية، وكان دخوله إدلب يعني القضاء على أي إمكانية متبقية، مهما كانت صغيرة، للتوصل إلى حل سياسي للأزمة في سورية.
• إقامة منطقة آمنة، ومنع حصول تدفق كبير للاجئين إلى داخل الأراضي التركية، نتيجة اندلاع مواجهاتٍ عسكرية كبيرة في محافظة إدلب؛ إذ يقيم في إدلب ما يزيد على مليون لاجئ قدموا إليها من مختلف مناطق الصراع في سورية، إضافة إلى سكانها الذين يقتربون من هذا العدد. وفي حال حصول مواجهات عنيفة بين قوات النظام، بدعم روسي – إيراني، أو وحدات حماية الشعب الكردية بدعم أميركي، للقضاء على هيئة تحرير الشام، فسوف تواجه إدلب مصير حلب أو الرقة، وسوف يؤدي ذلك إلى خروج جماعي للمدنيين باتجاه تركيا التي تحتضن ما يقرب من ثلاثة ملايين لاجئ سوري.
وتأمل تركيا أن تؤدي العملية التي تنفذها في إدلب إلى المساهمة في إنشاء منطقة آمنة لملايين اللاجئين داخل الأراضي السورية، في تكرار للتجربة الناجحة للمنطقة الآمنة التي أنشأتها تركيا في جرابلس، بعد قيام فصائل من المعارضة السورية المنضوية تحت غرفة عمليات درع الفرات بتحريرها من “داعش” بدعم تركي عام 2016.
تحديات تواجه العملية
يعتمد نجاح تركيا في تنفيذ العملية العسكرية في محافظة إدلب على مدى المقاومة التي ستبديها هيئة تحرير الشام، لتنفيذ المنطقة الآمنة التي تسعى تركيا إلى إنشائها. وكانت الهيئة أصدرت بيانًا نعتت فيه فصائل الجيش الحر المشاركة في العملية العسكرية في إدلب بفصائل الخيانة، واتهمتها بالتعاون مع روسيا والحكومة السورية، ولكن من دون الإشارة إلى تركيا.
وتراهن تركيا على حصول انشقاقاتٍ داخل هيئة تحرير الشام، تعفيها من الدخول في مواجهة شاملة معها، لا سيما أن الهيئة تعد من أشد الفصائل بأسًا في القتال، وأكثرها تسلحًا، وتضع
تقديرات عدد عناصرها بين 20-30 ألف مقاتل، فضلًا عن أنها تملك ميزة معرفة الأرض؛ ما قد يوقع خسائر فادحة بالقوات التركية. ويبدو واضحًا أن أنقرة تحاول تجنب صدام شامل مع هيئة تحرير الشام، يؤدي عمليًا إلى تحقق المخاوف نفسها التي دفعت تركيا إلى التدخل عسكريًا في إدلب، أي إطلاق موجة نزوح كبيرة باتجاه أراضيها، ودخول مواجهةٍ لمصلحة النظام السوري وحلفائه. من هذا الباب، لجأت أنقرة إلى التفاوض مع الهيئة، بغرض إقناعها بحل نفسها، أو على الأقل إخراجها من المدن، ودفعها بعيدًا عن الحدود التركية، وتسليم المعابر الحدودية لقوات المعارضة السورية الحليفة لها. كما قدمت تركيا مقترحًا للهيئة، يتضمن الانسحاب من إدلب المدينة مقابل انتشار قوات تركية برفقة عناصر من قوات المعارضة السورية لتحويلها إلى مدينة آمنة، ومنع أي عمليات قصف من الطائرات الروسية، وتلك التابعة للنظام السوري.
وفي حين لم تظهر مؤشراتٌ على قبول الهيئة المقترحات التركية، وتجنب الدخول في معركة شاملة معها، ومع فصائل المعارضة التي تدعمها، يغدو نجاح الاستراتيجية التركية كلها هنا محل تساؤل. وحتى تتضح نتيجة المفاوضات مع هيئة تحرير الشام، تحاول القوات التركية التركيز في انتشارها حاليًا على الحدود بين محافظة إدلب ومنطقة عفرين، لمحاصرة الجيب الكردي وقطع الطريق على احتمال تمدده جنوبًا.
خاتمة
تضع تركيا تحركها العسكري في إدلب في إطار عملية درع الفرات التي تهدف إلى احتواء الكانتون الكردي في عفرين، ومنع أي احتمالٍ لتمدّده جنوبًا نحو إدلب، وإنشاء منطقة آمنة تسمح للاجئين بالعيش في أمان داخل الأراضي السورية، وإخراج هيئة تحرير الشام التي يستخدم النظام وحلفاؤه وجودها في إدلب، للقضاء على أهم معاقل المعارضة وآخرها، وإنهاء الصراع السوري بالقوة. ولأن العملية ترفع سوية التنسيق الإيراني – التركي بشأن الأكراد، وتجذب تركيا أكثر نحوهما، تحظى العملية العسكرية التركية بدعم روسي وإيراني، وتعتقد تركيا أنها تسمح بالانتقال نحو وقفٍ شامل لإطلاق النار، كما قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، “والتمهيد للمرحلة السياسية في البلاد”. وتجري لقاءات مكثفة بين أجهزة الجيش والمخابرات ووزارات الخارجية بين تركيا وإيران وروسيا للوصول إلى هذا الهدف.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات