وصلت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق منذ محاولة الانقلاب في يوليو صيف 2016. وعبرت دول الاتحاد عن امتعاضها وقلقها من حملة تطهير شنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضد المتورطين، خالف فيها مبادئ حقوق الإنسان.
وتوترت العلاقات بين الطرفين منذ قيام أردوغان باستفتاء التعديلات الدستورية للانتقال إلى النظام الرئاسي، والذي أجري في أبريل الماضي. وشهدت العلاقات التركية الألمانية تصعيدا، ووصف الرئيس التركي الاتحاد الأوروبي بأنه من” بقايا النازية والفاشية”، وبأنه “يدعم الإرهاب”، فيما هددت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل خلال سباق منصب المستشارية في سبتمبر الماضي بعدم انضمام تركيا كعضو بالاتحاد الأوروبي، وقالت ميركل إنه “من الواضح أن تركيا لن تنضم إلى الاتحاد”. مضيفة “أنها ستتحدث إلى قادته الآخرين حول إنهاء عملية انضمام تركيا المتعثرة”.
وتجري أنقرة مفاوضات صعبة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا منذ العام 2005، إلا أنها منقطعة منذ أشهر عدة، بسبب التطورات السياسية الأخيرة في تركيا وأمام اتهامات المعارضة التركية لنظام أردوغان بالتسلط.
ومع ذلك تجبر ملفات التجارة والحرب في سوريا الطرفين على العمل معا لتحقيق ثلاث أولويات، ولن تكون أي واحدة منها سهلة.
ملفات مشتركة
تتمثل الأولوية الأولى في معالجة الملفات المشتركة التجارية والأمنية، ويتمحور الملف الأول حول الاتحاد الجمركي الأوروبي التركي. أما الملف الثاني فيشمل التعامل مع محاربة الإرهاب، ويتعلق الملف الثالث بتوفير المساعدات الإنسانية للاجئين السوريين، ويبقى كل شيء عدا ذلك ثانويا.
ويعد تطوير مشروع الاتحاد الجمركي مثالا واضحا لإشكالية العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، ففي حين جلب الاتحاد الجمركي منافع اقتصادية للطرفين، وتسبب في إحداث تغيير هيكلي في قطاع التصنيع، ويتفق أصحاب الأعمال من الجانبين على أنه حان وقت ترميم هذه الاتفاقية، إلا أن تطوير هذه الاتفاقية لن يكون تفاوضا خاليا من الشروط، على عكس ما تنتظره أنقرة، ويعود ذلك لسببين اثنين يشكلان عائقا أمام التعاون الأوروبي التركي في المجال الجمركي.
من الصعب أن يعطي الأوروبيون الضوء الأخضر للشروع في محادثات الاتحاد الجمركي بينما تركيا تحتجز بعض مواطينهم
أولا: يجب أن يحقق الاتحاد الجمركي الاندماج الكامل لقطاعات التصنيع والخدمات لدى الطرفين، وهذا يفترض مسبقا فرصا اقتصادية متكافئة (في السياسة التنافسية والصفقات العمومية وقانون النقابات والعدالة الاقتصادية) وهو أمر غير متوفر من الجانب التركي حاليا.
أما السبب الثاني، فإنه من الصعب تصور أن الزعماء الأوروبيين سيعطون الضوء الأخضر للشروع في محادثات الاتحاد الجمركي بينما يبقى مواطنون تابعون للاتحاد الأوروبي في السجون التركية، بناءً على تهم زائفة ودون لوائح اتهام موثقة.
ولن تعفي خطط أنقرة القائمة على نظرية المؤامرة من العمل الجدي وتقديم التنازلات التي تحتاج إلى إنجازها، استعدادا لمفاوضات الاتحاد الجمركي “إن بدأت”، حيث يحاول نظام أردوغان التهرب من نقاش معمق وشامل حول الخلفية القانونية والتنظيمية لاتحاد جمركي بالقول إن هناك “مؤامرة ألمانية” خلف المحادثات.
وبصفة أشمل، تحتاج تركيا أن تدرك أن علاقتها مع الاتحاد الأوروبي هي علاقة متوترة وتتميز بالضغينة بعد استعمال أنقرة للغة لاذعة تجاه أوروبا هذا العام، بما في ذلك الإشارة إلى “بقايا النازية”، و”إعادة إيقاد غرف الغاز”، والتوجه للناخبين الألمان بالقول “لا تنتخبوا أعداء تركيا”.
ومن الخطأ الكبير افتراض أن ذلك يمثل توصيفا لألمانيا، إذ أن ذكر “الممارسات الألمانية” بقدر ما هو إهانة للألمان فهو أيضا إهانة لكل الأوروبيين . حيث أن الملايين من العائلات الأوروبية يمكن أن تروي القصة نفسها: كيف أن جيلين عانا الموت والصدمات النفسية والحرمان وهما يحاربان ألمانيا من أجل إنقاذ بقية أوروبا، بينما جيل ثالث عمل جاهدا من أجل طي صفحة الماضي وبناء أوروبا موحدة.
ومادامت أنقرة لم تعترف بالطبيعة الجوهرية لمشروع الاتحاد الأوروبي لن ينظر إلى تركيا على أنها شريك أوروبي. وفي غياب اعتذار (غير محتمل) سيبقى الاستياء السياسي الأوروبي مدةً أطول.
ومع ذلك، يجب على الطرفين أن يجدا طريقة للعمل معا، خاصة على أولوية ثانية، ألا وهي محاربة الإرهاب.
الحرب ضد الإرهاب
مع انخفاض حدة العمليات ضد تنظيم داعش في سوريا والعراق، يكتسي مصير مقاتليه أهمية كبرى. ولفتت قناة بي بي سي مؤخرا خلال شريط وثائقي إلى اللغز الذي يحيط بنهاية المعركة لاستعادة الرقة من التنظيم الإرهابي، إذ لم يقتصر هذا التقرير على طرح أسئلة عما إذا كان التحالف المناهض لداعش بقيادة الولايات المتحدة أو القوى الديمقراطية السورية قد عقد صفقة مع مقاتلي داعش، بل يلفت النظر أيضا إلى كم منهم دخلوا تركيا، وسلط الضوء على كيفية تعامل الجهاز الأمني التركي معهم.
لن تعفي خطط أنقرة القائمة على نظرية المؤامرة من العمل الجدي وتقديم التنازلات التي تحتاج إلى إنجازها
وكما هو متوقع قد ينقل داعش الآن معركته إلى مواقع تمرد أخرى مثل ليبيا أو أفغانستان أو يرجعها إلى أوروبا. وعبّر المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب عن رأيه بوضوح حول هذا الموضوع على القناة التلفزية العمومية التركية حيث قال بأن “أوروبا ستواجه تهديدا إرهابيا، وخاصة من مقاتلين عائدين من سوريا والعراق على مدى جيل. الآن وأكثر من أي وقت مضى، يجب إرساء تعاون قوي ضد الإرهاب باعتباره عنصرا مركزيا في العلاقة الشاملة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا”. وبما أن السياسات المضادة للإرهاب تقوم على تتبع الأشخاص المشتبه فيهم، فإن التعامل مع التفاصيل الأساسية للمشكلة يعتمد على التعاون اليومي بين الشرطة وأجهزة الاستخبارات من الجانبين.
ويتمحور التعاون التركي الأوروبي في الملف الأمني حول كيفية تتبع السلطات التركية للجهاديين الأوروبيين العائدين من سوريا والعراق. وحول كيفية إدخال المعلومات المتعلقة بسفرهم نحو بلدان الاتحاد الأوروبي في صلب الجهاز الأمني للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وبما أن تركيا كثيرا ما تعامل المقاتلين الأجانب باعتبارهم مهاجرين غير شرعيين، بإمكان الجهاديين العائدين الذهاب إما إلى بلدانهم الأصلية أو إلى بلد آخر يختارونه، وهو ما يطرح تحديا إضافيا أمام الأجهزة الأوروبية.
وبإيجاد صيغة توافقية لحل هذه الملفات الشائكة سيتجاوز التعاون الأوروبي التركي الصعوبات السياسية الأعم، وبغض النظر عن تشكيات تركيا من كيفية محاربة الحكومات الأوروبية الفردية حركة حزب العمال الكردستاني المتمردة على أراضيها، تتجلى حقيقة لا يمكن تجاهلها؛ فـ”كل من الاتحاد الأوروبي وتركيا معرض بشكل متساو للتهديد من مقاتلي داعش العائدين”، وإذا تركوا دون مراقبة، سيتمكنون من القيام بأنشطة إرهابية في أي مكان من أوروبا وتركيا.
ومن اللافت فيما يخص اتفاقية اللاجئين بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، بالرغم من وجود الكثير من الانتقادات المرتبطة بطبيعتها غير الشرعية وطابعها غير الأخلاقي، أنه تم تطبيق اتفاقية مارس لسنة 2016 بسرعة قياسية.
وإلى حدود الحادي عشر من نوفمبر الجاري، تم تحديد مشاريع بقيمة 2.9 مليار يورو من بين المشاريع المقررة بقيمة 3 مليارات يورو، وتم التعاقد فيما يخص 1.8 مليار يورو، وصرفت 908 ملايين يورو.
وبمجرد النظر إلى الجوانب الإنسانية فقط نلاحظ أن الاتفاقية تعمل جيدا حيث يظهر الدعم الملموس للاجئين السوريين في تركيا والمجتمعات المضيفة مثل الإعلان عن فتح 178 مركزا استشفائيا في كافة أرجاء تركيا في القريب العاجل.
لكن مع ذلك يواصل الإعلام الحكومي التركي تصوير برنامج الاتحاد الأوروبي للمساعدات بلهجة سلبية ومتناقضة، فمن جهة نجد أن الأجهزة الرسمية في تركيا المكلفة بتطبيق الخطة راضية تمام الرضى، ومواظبة وتتكلم بصراحة في لقاءاتها المتواترة مع نظرائها من الاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى تواصل القيادة السياسية في مهاجمة الجهود الإنسانية التي يقوم بها الاتحاد الأوروبي من أجل غايات سياسية داخلية.
وهذا الأمر يضر بصورة تركيا في أوروبا في الوقت الذي يوشك فيه القادة الأوروبيون على مناقشة مسألة تطبيق القسط الثاني بقيمة 3 مليارات يورو الذي نوقش (لكن لم يتم الاتفاق عليه) في مارس 2016 كجزء من الاتفاقية حول اللاجئين. فهل سيتحول النقاش القادم بين تركيا والاتحاد الأوروبي إلى معركة لي أذرع أخرى، أم سيكون مشروعا إنسانيا مشتركا؟ الإجابة عن ذلك ستتوقف في جزء كبير منها على سياسات أنقرة الداخلية.
صحيفة العرب اللندنية