«التريّث» الحريريّ مثل «التخلّي» الجنبلاطيّ قبله: إنّهما من عوارض الحيرة في التعامل مع «حزب الله» ومع فائض قوّته: من جهة، يستحيل القبول بأدواره الخارجيّة، فضلاً عن سلاحه في الداخل، ومن جهة أخرى، يستحيل الصراع مع سلاحه لأنّه محكوم سلفاً بالهزيمة، فضلاً عن كونه يدمّر لبنان على رؤوس الجميع.
من جهة، يستحيل الصمت حيال العوائد الكارثيّة لفوائض قوّته: في استضعاف الدولة، وقابليّة الاقتصاد للعطب، وتردّي العلاقات العربيّة والدوليّة للبنان، ومن جهة أخرى، يستحيل تحويل الجهر بالكارثة إلى سياسة عمليّة إذ تفتقر سياسة كهذه إلى مقوّماتها اللازمة.
ولنقُلْ بصراحة إنّ وضعاً كهذا مفروض على أكثريّة اللبنانيّين، مفروض بقوّة السلاح وليس بترّهات المقاومة والدفاع عن لبنان وبقية الأخطار التي يستولدها «حزب الله» لكي يقاومها. لكنّ الحال مع الحزب المذكور أشبه بحال الوحش الذي تمّ تسمينه سنةً بعد سنة حتّى صار حجمه يساوي حجم البيت الصغير الذي يقيم فيه، وهكذا بات قتل الوحش يعادل تدمير البيت.
هذه اللوحة الكئيبة يُسأل عن التسبّب بها أكثر من طرف يتصدّرها بالطبع نظاما سورية وإيران. لكنْ أيضاً يُسأل عنها آخرون، في لبنان وخارجه، ابتلعوا «المقاومة» ومارسوا نفخها حتّى باتت مهمّة التخلّص منها تتعدّى لبنان وقدراته وتتّصل بتحوّلات وأدوار خارجيّة يصعب اليوم التكهّن بجريانها.
مع ذلك، وفي حدود القدرة اللبنانيّة على التدخّل، لا بدّ من التوقّف عند دور رئاسة الجمهوريّة، فإذا صحّ أنّ استقالة سعد الحريري أحدثت «صدمة إيجابيّة»، كان الحريّ برئاسة الجمهوريّة أن تتلقّف هذه الصدمة وتوظّفها لمصلحة «النأي بالنفس»، فـ «حزب الله» لن يقدّم طوعيّاً أيّ تنازل، ما خلا الكلام المعسول: ذاك أنّه إمّا لم يشارك في الحروب التي يُتّهم بالضلوع فيها (اليمن)، وإمّا أنّ الحروب التي شارك فيها «انتهت» (سوريّة والعراق)! مع ذلك فـ «الصدمة الإيجابيّة»، إذا ما أُحسن استخدامها، سهّلت قيام توازن أقلّ اختلالاً، إذ في مقابل السلاح وإيران وسوريّة، هناك علاقات لبنان الخارجيّة ومصالحه، وطبعاً في مقابل الوزن العدديّ الشيعيّ هناك الوزن العدديّ السنيّ.
وتوازنٌ «أقلّ اختلالاً» كهذا فرصة لميشال عون ينبغي أن تُغريه وتُغري تيّاره الحريصين على «قوّة الدولة» وعلى «استعادة الدور المسيحيّ» كمرجع تحكيم ومصدر قرار. وهذا فضلاً عن أنّ نظريّة «الرئيس القويّ» تجد في هذه المسألة تحديداً ما يبرهن صحّتها أو يبرهن خطأها. فإذا بدا من المستحيل اليوم طرح مسألة سلاح الحزب، فقد لا يكون مستحيلاً بالدرجة ذاتها طرح مسألة عدوانه على سوانا خارج لبنان.
ونعلم أنّ «القوّة» التي تميّز ميشال عون عن رئيسين سابقين هما إميل لحّود وميشال سليمان، يكمن امتحانها هنا تحديداً، فإن لم تجر محاولة كهذه استمرّت رئاسة الجمهوريّة في الدور الذي تلعبه منذ انتخاب لحّود، وهو حراسة نموّ «حزب الله» وتضخّمه، كما استمرّت «قوّة الرئاسة» و «دور المسيحيّين» وسوى ذلك لغواً وزجلاً يطرب لهما أهل القرى النائية في أعلى الجرود.
حازم صاغية
صحيفة الحياة اللندنية