أوسلو – مداخلات كثيرة قدمها باحثون متخصصون، وتضمنها مؤتمر أوسلو في النرويج سبتمبر 2017 حول تنظيم القاعدة، والذي نظمته مؤسسة البحث العسكري النرويجية بالتعاون مع وزارة الشؤون الخارجية، وجاء المؤتمر تزامنا مع مرور ثلاثة عقود على تأسيس هذا التنظيم الإرهابي.
من ضمن المقالات المتعلقة بهذه المداخلات ما نشرته آن ستنرسون، الباحثة والمحررة الضيفة في سلسلة مقالات “وجهات النظر حول الارهاب”، أكدت فيه أن ما نعرفه عن القاعدة اليوم كان النقاش حول وجهتي نظر متناقضتين غير قابلتين للتوافق: وجهة النظر الأولى ترى أن تنظيم القاعدة قوي ولا يمكن التقليل من شأنه، بينما ترى الثانية أن القاعدة في تراجع. أولئك الذين يقولون بأن تنظيم القاعدة قوي يميلون إلى التركيز على حجم وعدد التابعين لهذا التنظيم وخاصة في سوريا واليمن والصومال. كما يشيرون إلى ظهور قادة جدد، وبخاصة حمزة نجل بن لادن، وأولئك الذين يقولون بتراجع القاعدة يركزون على أن هذا التنظيم لم ينفذ هجوما إرهابيا ناجحا في الغرب منذ تفجيرات لندن في سنة 2005 ما عدا هجمة شارلي ابدو في باريس سنة 2015.
وكلا الجانبين في النقاش يقارنان القاعدة بمنافسه داعش من أجل قياس مدى نجاح الأول أو فشله. الذين يقولون بقوة القاعدة يشددون على أنه لم يخسر فروعه وتابعيه الأساسيين في اليمن والصومال وشمال أفريقيا أو أفغانستان لفائدة الدولة الإسلامية، والآن بأفول الدولة الإسلامية قد يمتص منخرطي هذا الأخير السابقين. أما أولائك الذين يقولون بضعف القاعدة يشددون على أن داعش منذ 2014 نفذ عددا كبيرا من الهجمات الإرهابية في الغرب وجند الكثير من المقاتلين الأجانب مقارنة بالقاعدة.
بيد أن هذا النقاش لا يفيد كثيرا، فهو بدلا من تقديم معلومات جديدة عن القاعدة يحوم حول مختلف المفاهيم عن “القوة” و“التهديد”. فهل يجب قياس قوة القاعدة بعدد المنخرطين وحجمهم أو شعبية وامتداد رسالته؟ أو هل يجب أن تتخذ القدرة على تنفيذ هجمات إرهابية دولية مؤشرا؟ وفي ما يتعلق بالتهديد، هل نتحدث عن التهديد المباشر من قدرات القاعدة في “العمليات الخارجية”، أو التهديد بعيد المدى من تطوير ملاذات صديقة للقاعدة في الخارج؟ النقاش يصور كيف أننا لم نتفق بعد على ماهية القاعدة وماذا يريد وكيف يعمل. وتعتبر هذه المسائل في غاية الجدية خصوصا وأن القاعدة مازال يعتبر تهديدا أمنيا كبيرا للغرب. إن كيفية تعريفنا للقاعدة ونظرتنا إليه يكتسب أهمية مركزية لكيفية تأويلنا وتقييمنا لأفعاله، وبالتوسع أكثر: أي موارد نستخدمها ضد القاعدة؟
المفهوم المهيمن لمصطلح “القاعدة” اليوم هو أنه تنظيم ذو طبقات متعددة تتكون من نواة وعدد من التنظيمات المتفرعة وحركة أيديولوجية أوسع. ويعتبر آخرون القاعدة حركة تمرد معولمة فيها “نواة” تقدم التوجيه الأيديولوجي والاستراتيجي، و“فروع إقليمية” تقاتل من أجل الأراضي لفائدة النواة.
ليس هناك أي مفهوم خاطئ من بين هذه المفاهيم، لكنها محدودة في ما يتعلق بتفسير نوع التهديد الذي يمثله تنظيم القاعدة للغرب. ولفهم هذه المسألة يجب أن نفهم كيفية استعمال هذا التنظيم للإرهاب الدولي كجزء من استراتيجيته.
يجب النظر إلى القاعدة كرائد ثوري يخوض صراعا دائما لدعم أيديولجيته السلفية الجهادية. استراتيجية القاعدة ليست ثابتة بل هي استراتيجية مرنة وانتهازية، وتنظيم القاعدة يستعمل طيفا من الأدوات المرتبطة بكل من الفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين. حاليا الإرهاب الدولي ليس استراتيجية ذات أولوية لدى القاعدة لكن من المرجح أن يكون كذلك في المستقبل، لكون التنظيم ينجح في إعادة بناء قدرته العملياتية في الخارج.
نظرة تاريخية عامة
قبل مناقشة ما هو تنظيم القاعدة، يقتضي الأمر القيام بحوصلة صغيرة لتاريخه على مدى ثلاثين عاما. تأسس هذا التنظيم في أفغانستان حوالي سنة 1987. ويشير اسمه إلى قاعدة عسكرية للمقاتلين العرب في أفغانستان. بين سنتي 1987 و1989 شاركت المجموعة التابعة لبن لادن في معارك ضد القوات الشيوعية السوفييتية والأفغانية في أفغانستان. وفي بداية التسعينات من القرن الماضي انتقل بن لادن إلى السودان أين رحب به القائد الإسلامي حسن الترابي. وتحت الضغط الدولي على النظام السوداني طرد بن لادن في سنة 1996 ثم رجع لاحقا إلى أفغانستان.
التنظيم لم يخسر فروعه وتابعيه الأساسيين في اليمن والصومال وشمال أفريقيا أو أفغانستان لفائدة الدولة الإسلامية
بين 1996 و2001 عاش بن لادن في أفغانستان تحت حماية طالبان وتمكن تنظيم القاعدة من النمو والتوسع. وفي تلك الفترة أعلن بن لادن الحرب على الولايات المتحدة وشرع التنظيم في تنفيذ هجمات إرهابية دولية ضد أهداف أميركية (في شرق أفريقيا سنة 1988، وقبالة ساحل اليمن سنة 2000 وأخيرا على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001).
وردا على هجمات الحادي عشر من سبتمبر أعلن الرئيس جورج بوش “الحرب على الإرهاب” سيئة السمعة حاليا التي قام خلالها ائتلاف بقيادة أميركية بغزو أفغانستان في أواخر سنة 2001 وأسقطت نظام طالبان، لكن بن لادن والعديد من أفراد القاعدة تمكنوا من الفرار. واستمر تنظيم القاعدة في الازدهار في المناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان ودعم حرب العصابات الوليدة في أفغانستان ونشر نفوذها في كافة أنحاء العالم الإسلامي.
في سنة 2003 غزت الولايات المتحدة الأميركية العراق لإسقاط صدام حسين من الحكم فمنح ذلك القاعدة فرصة ذهبية لتعبئة العالم الإسلامي في دعوة للجهاد ضد القوات الأميركية في العراق. في هذه النقطة شرع تنظيم القاعدة في إقامة فروع محلية على امتداد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي ظاهرة أشير إليها لاحقا بعبارة “استراتيجية الامتياز” لدى القاعدة. وأقيم فرع القاعدة الأهم، والأنجح لبعض الوقت، في العراق سنة 2004 عندما أعلن قائد حرب العصابات الأردني أبومصعب الزرقاوي، ولاءه لبن لادن. انطلاقا من سنة 2007 عانى تنظيم القاعدة في العراق من نكسات خطيرة ويعود ذلك في جزء منه إلى زيادة عدد الجنود الأميركيين، وفي الجزء الآخر يعود إلى أن العشائر السنية المحلية تألبت على فرع القاعدة المحلي.
وبعد فشل القاعدة في العراق دفع بن لادن نحو تغيير التنظيم لاستراتيجيته في اتجاه مقاربة ذات توجه محلي أكثر تركيزا على السكان في البلدان الإسلامية، مع مواصلة استهداف الغرب عن طريق الإرهاب الدولي. في سنة 2011 واصل التنظيم مقاربته المركزة على السكان ودعمها للاستفادة من فرص أتى بها الربيع العربي. وبحلول سنة 2015 كانت قدرة القاعدة على شن هجمات إرهابية قد وهنت نتيجة لحرب الطائرات بدون طيار الأميركية التي استهدفت أهم زعماء القاعدة، وبسبب تحويل المجندين الغربيين ولاءَهم إلى ما يسمى بالدولة الإسلامية بعد أن كانوا يشكلون شبكات القاعدة في أوروبا. لكن الدولة الإسلامية الآن تكبدت نكسات شديدة، وحسب بعض الملاحظين آن الأوان لنوع من “عودة” القاعدة. ومثلما لاحظنا سابقا ليس هناك اتفاق حول مظهر هذه العودة، وبالخصوص هل ستضم الإرهاب الدولي؟ وإلى أي حد؟
إحدى الأفكار الخاطئة الشائعة عن استراتيجية تنظيم القاعدة هي أنه ثابت أو يتبع نوعا من الخطط الكبرى. ومثلما سيتبيّن فيما يلي، تتميز استراتيجية القاعدة بأنها ارتكاسية أكثر من كونها استباقية، وفي الكثير من الأحيان تدفعها الصدفة والأحداث أكثر مما يميل الكثير إلى اعتقاده.
المرونة والانتهازية
التقاء خطين متوازيين
تاريخ القاعدة حافل بالأحداث العرضية التي كان لها وقع عميق على مسار التنظيم. في سبتمبر 1996 صادف أن كان بن لادن في أفغانستان عندما وصل طالبان إلى الحكم، ولم يكن ذلك مبرمجا من قبل. عندما وصل بن لادن إلى أفغانستان في مايو من ذلك العام لم يكن يعرف من هم طالبان أو كونهم على وشك الاستيلاء على السلطة في البلاد. ومع ذلك فإن علاقة القاعدة مع طالبان ستحدد السنوات الخمس الموالية من تاريخ القاعدة. وكان الجمع بين عاملين اثنين -وهما حدود دولية مفتوحة وتنظيم يدعي أنه أسس دولة إسلامية صرفة- قد مكّن تنظيم القاعدة من تلقي عددا غير مسبوق من المجندين في مخيماته التدريبية.
حدث آخر مؤثر بالنسبة إلى مصير القاعدة هو الغزو الأميركي للعراق سنة 2003. بالرغم من وجود توقعات بأن تنظيم القاعدة كان قبل 2001 يخطط لاستفزاز أميركا لكي تغزو العراق، لا توجد أدلة تاريخية ثابتة لدعم ذلك. لقد كان الغزو الأميركي للعراق بمثابة ضربة حظ بالنسبة إلى القاعدة وفرصة تم استغلالها بمهارة عندما أتيحت. في الفترة الممتدة بين 2003 و2007 كان التنظيم يركز بصفة أساسية على محاولة إنشاء قاعدة له على الأراضي العراقية من خلال فرعه المحلي، القاعدة في العراق.
وبعد تحقيق بعض النجاح في البداية فشل تنظيم القاعدة في العراق عندما تألب عليه السكان المحليون في محافظة الأنبار، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى السلوك الوحشي لهذا التنظيم على الأرض. إحدى نقاط القوة عند التنظيم هي قدرته على التعلم من أخطاء الماضي، ففي مراسلة بين بن لادن وفروع للقاعدة في اليمن في 2009-2010 أوضح بن لادن أن تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية يجب ألا يعيد أخطاء القاعدة في العراق عند التعامل مع القبائل المحلية. وتم نقل “دروس مستخلصة” مشابهة من القاعدة في الجزيرة العربية إلى القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي سنة 2012.
بعد غزو العراق كان الحدث الذي أثر على استراتيجية القاعدة هو الربيع العربي إذ وفرت الانتفاضات فرصا جديدة لتنظيم القاعدة لتركيز حضوره في العالم العربي. ولفهم الأولويات الاستراتيجية للقاعدة بعد 2011 من الضروري النظر الى الانتفاضات العربية من وجهة نظر القاعدة؛ فبينما علق الملاحظون سنة 2011 بأن الانتفاضات الشعبية همشت القاعدة لم ير زعماء هذا التنظيم المسألة بتلك الطريقة. على العكس من ذلك، هناك مؤشرات على أن بن لادن رأى الانتفاضات العربية كعلامة على نجاح القاعدة.
قد يقرر التنظيم الاعتماد على خط واحد من استراتيجيته الإرهابية الدولية، المتمثلة في تشجيع “الإرهاب الفردي”
لننظر إلى السياق من وجهة نظر تنظيم القاعدة: كانت استراتيجيته إلى حدود 2011 تنفيذ هجمات تلحق الضرر الاقتصادي بالولايات المتحدة، ولاحقا سعى التنظيم إلى استنزاف الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق انطلاقا من 2001 و2003 على التوالي. وفي 2008 ضربت الولايات المتحدة أزمة اقتصادية كبرى، وفي السنة نفسها أعلنت القوات الأميركية عن انسحابها من العراق. ثم انطلاقا من ديسمبر 2010 بدأت الولايات المتحدة على ما يبدو تفقد قبضتها على العالم العربي. ما إذا كان ذلك حقيقة من عدمه ليس أمرا مهما، بل المهم هو أن بن لادن ربما أوّل الربيع العربي على أنه إشارة أخرى إلى أن تنظيم القاعدة نجح في استراتيجيته المتمثلة في إضعاف الولايات المتحدة اقتصاديا وأن بإمكانه الانتقال إلى المرحلة الأخرى، وهي إثارة الثورات في الشرق الأوسط.
آخر حدث كان له وقع على السلوك الاستراتيجي لتنظيم القاعدة هو ظهور منافس قوي سنة 2014، وهو تنظيم داعش. ما من شك في أن زعيم القاعدة، أيمن الظواهري، أخذ التحدي القادم من الدولة الإسلامية بجدية، ففي 2015 ألقى عددا من الخطب ينتقد فيها الدولة الإسلامية وأصبح خطابه بمرور الوقت أكثر عدوانية. أدى التنافس بين القاعدة والدولة الإسلامية إلى عملية “مزايدة” بين هذين التنظيمين الجهاديين وهو ما أثر على استراتيجيات التنظيمين لكن بطرق تختلف قليلا؛ ففي حين أطلق تنظيم الدولة الإسلامية سنة 2014 حملة من الإرهاب الدولي، واصل ودعم تنظيم القاعدة استراتيجيته المعدلة سابقا المتمثلة في كسب قلوب وعقول الناس في العالم الإسلامي. هناك اعتقاد بأن ظهور الدولة الإسلامية سهل على تنظيم القاعدة مواصلة استراتيجيته المركزة على السكان، فأمام وحشية تنظيم داعش وسلوكه الإقصائي تمكن تنظيم القاعدة فجأة من تقديم نفسه على أنه الأكثر “اعتدالا” بين الاثنين.
الإرهاب المتخفي
الفرع الخارجي للقاعدة لن يتموقع في أراض تحت السيطرة، فتلك ستكون مخبأ واضحا جدا وهدفا سهلا للطائرات دون طيار
بيّنت هذه المراجعة التاريخية للقاعدة كيف أن تاريخ هذا التنظيم أخذ منعرجات غير منتظرة بناء على أحداث عالمية. مرة تلو الأخرى يتبع التنظيم استراتيجية ارتكاسية في ردود فعله على أحداث خارجة عن سيطرته وسعيا منه للاستفادة منها على أفضل وجه. ولمحاولة تنفيذ مختلف هذه الاستراتيجيات يمتلك تنظيم القاعدة طيفا من الأدوات.
ملخص القول هو أننا يجب أن نميز بين طبيعة هذا التنظيم والتكتيكات والأدوات التي بحوزته. فالإرهاب الدولي هو أداة، والعمليات السرية أداة مختلفة. وفي المستقبل قد نرى العديد من هذه التكتيكات تنصهر في أشكال جديدة من الإرهاب. لقد انتقل تنظيم القاعدة في نهاية التسعينات إلى ما هو أبعد من الإرهاب الدولي بشروعه في استخدام شكل من أشكال “الإرهاب المتخفي” كاستراتيجية. والخبر السار هو أن استراتيجية القاعدة هي استراتيجية ارتكاسية، بدلا من أن تكون استباقية، بيد أن توقّع خطوته الموالية ما زال يتطلب التفكير خارج الصندوق.
قد يقرر تنظيم القاعدة الاعتماد على خط واحد من استراتيجيته الإرهابية الدولية، المتمثلة في تشجيع “الإرهاب الفردي” بالتوازي مع تدعيم حركات التمرد في العالم الإسلامي. هذا لا يعني أنه سيتخلى عن التخطيط الفوقي لعملياته الخارجية، لكن في المستقبل لن يتموقع الفرع الخارجي للقاعدة بالضرورة في أراض تحت سيطرة فروع القاعدة، فتلك ستكون مخبأ واضحا جدا وهدفا سهلا للطائرات دون طيار.
يجب النظر إلى دعم القاعدة للمتمردين والتخطيط الإرهابي الدولي للقاعدة كمجموعتي مشاكل مختلفتين تتطلبان إجراءات مختلفة. قد يكون من الصعب بالنسبة إلى الحكومات الغربية التعامل مع المجموعتين من المشاكل في الوقت نفسه، ومن ثم قد يكون عليها انتقاء معاركها.
العرب اللندنية