اتّبع قمع الانتفاضة الأخيرة في إيران نمطاً مألوفاً، وتفاقم فوراً بعد توسع رقعة الاحتجاجات في مدن وبلدات متعددة. وقد تكررت هذه السلسلة من عمليات التمرد والقمع عدة مرات في ظل عهود آيات الله، حيث كان النظام ينجح في إخمادها في كل مرة. وسيرتبط مصير الاحتجاجات الحالية مباشرة بقدرة الجهاز القسري الإيراني ومبتغاه؛ لذلك فإن فهم هيكلية هذا الجهاز وعملياته الداخلية أمراً ضرورياً.
التسلسل الهرمي على الصعيد الوطني والمحلي
تتأّلف الفروع الأمنية والعسكرية والقضائية الرئيسية للجهاز القسري الإيراني من الشرطة (نیروی انتظامی جمهوری اسلامی ایران، أو “ناجا”)، و”الباسيج”، و «الحرس الثوري الإسلامي». وتخضع الشرطة لسيطرة وزارة الداخلية، التي وضعها الدستور تحت سلطة الرئيس. ومع ذلك، يتم تعيين رئيس الشرطة (“ناجا”) من قبل المرشد الأعلى، ويشغل هذا الرئيس منصب القائد الأعلى للقوات المسلّحة الإيرانية، مما يحدّ بشكل فعّال من سلطة وزير الداخلية في المسائل المتعلّقة باللوجستيات والمعدات والدعم.
وتبدأ التركيبة العمودية لـ “ناجا” بقيادة الشرطة الوطنية. وفي أدنى مستوى منها، يكون لكلّ مقاطعة مقرّ قيادة واحد تخضع له كافة مراكز الشرطة. ويكون لكلّ مدينة بدورها دائرة تأديبية واحدة (ناحیه انتظامی) تدير مراكز الشرطة المحلية، وتسمّى عادة “كالانتارى” في المناطق الحضرية و “پاسگاه انتظامی” في المناطق الريفية، كما وصف ذلك باحثون آخرون. وعلى الرغم من بعض الاختلافات المحلية، سيحظى كلّ مركز شرطة إيراني نموذجي بنائب للوقاية، ونائب للاستخبارات، ونائب للتفتيش، ونائب للعمليات ومسؤول في الشرطة القضائية من بين مسؤولين آخرين.
ويتألف أفراد الشرطة حالياً من كوادر (ضباط) ومجنّدين (أي الأشخاص الذين يقضون سنتين من خدمتهم العسكرية الإلزامية في الـ “ناجا”). ووفقاً لقائد السابق الجنرال أحمدي مقدم، تبلغ نسبة المجنّدين 45 في المائة. وعلى الرغم من عدم توافر إحصاءات رسمية عن حجم القوة، تشير التقديرات المختلفة إلى أنّ العدد الإجمالي لأفراد الشرطة يتراوح بين 100,000 و 200,000 فرد. بالإضافة إلى ذلك، يعمل أكثر من100,000 شخص في المنظمات التابعة لـ “ناجا” مثل “مكتب الخدمات الإلكترونية للشرطة” (ويعرف أيضاً باسم “پلیس +١٠” أو “الشرطة + ١٠”). وهي تضمّ 41,000 موظف في شركات الحماية والمراقبة التي توفّر الأمن لأكثر من 4,600 حيّ.
أمّا بالنسبة لـ “الباسيج” فقد أصبحت أكبر منظمة ميليشيا مدنية في العالم، إذ ينتمي إليها نحو خمسة ملايين عضو موزّعين على أربعة وعشرين فرعاً ومقسّمين على أربع فئات رئيسية، هي: الفئة العادية، والنشطة، والكوادر، والفئة الخاصة. وتشكّل المنظمة شبكة عنقودية تتألف من قواعد “الباسيج” والمقاطعات والمناطق. وبالرغم من أنّ القواعد هي أدنى مستوى تنظيمي، إلاّ أنّ وجودها البارز (50,000 موقع في جميع أنحاء إيران) يجعلها العمود الفقري الحقيقي للقاعدة الشعبية لـ “الباسيج”. وتتحكّم كل مقاطعة من مقاطعات المقاومة في “الباسيج” بعشرة إلى خمسة عشر قاعدة وهي موطن لقوات الأمن والقوات العسكرية المحلية. وتخضع هذه المقاطعات بدورها لسيطرة الفروع الإقليمية التابعة لـ «الحرس الثوري». وتبعاً لحجمها، تضمّ بعض المدن أكثر من منطقة تابعة لـ «الحرس الثوري» (على سبيل المثال، طهران).
ويقيناً أنّ أعضاء “الباسيج” لا يشاركون جميعاً في عملية القمع السياسي. ومع ذلك، تضمّ المنظمة عدة وحدات أمنية وعسكرية مؤلّفة من أعضاء فاعلين أو متطوّعين، من بينها “كتائب الإمام علي الأمنية”. ويخضع هؤلاء الأفراد للتدريب وفق أساليب خاصة مثل استخدام الأسلحة والدراجات النارية المخصّصة لقمع الاضطرابات. ويندرج بعض أعضاء “الباسيج” الناشطين في كتائب التدخّل السريع المعروفة بـ”بيت الُمُقدَّس”، وهم مسؤولون عن الدفاع عن المنشآت الحيوية في أحيائهم.
ويُعتبر «الحرس الثوري الإسلامي» بحدّ ذاته نظاماً لامركزياً نوعاً ما، مع وجود عشرة مقرّات إقليمية يقود كلّ منها مجموعة من القوات الإقليمية (سپاه استانی). وقد أعيدت هيكلتها على هذا النحو منذ عدّة سنوات لتتمكّن من العمل بشكل مستقلّ، وتدافع عن النظام ضد كل من الحروب العالية الحدّة والتحديات الداخلية المنخفضة الحدّة مثل التمرّد. ويقوم جميع أفراد القوات البرية التابعة لـ «الحرس الثوري» و”الباسيج” بتقديم التقارير إلى القوات الإقليمية التابعة لـ «الحرس الثوري». أمّا مهام كلّ قوّة فتشمل الدفاع عن حدودها الإقليمية وقمع الاضطرابات، ويقوم بذلك لواء أمن (يگانه – امنيت) يتألف من القوات البرية التابعة لـ «الحرس الثوري» ووحدات “الباسيج”.
وفي الواقع، تم توجيه القوات البرية أساساً للقضاء على الفوضى الداخلية منذ بداية الألفية الحالية. وتم تكريس الجيش النظامي للدفاع عن حدود إيران الخارجية. وتتشابه بعض وحدات القوات البرية مع وحدات الجيش التقليدية، في حين يتم تدريب وحدات أخرى على القيام بمهمّات سرية وحروب غير متناظرة، ولكن يتألّف معظمها من كتيبة مشاة خفيفة مدرّبة ومجهزة للحفاظ على الأمن الداخلي.
“الدولة البوليسية” الإيرانية
تضمّ إيران أكثر من سبعة عشر جهازاً أمنياً مختلفاً، مع ثلاث هيئات رئيسية مشتركة في الاستخبارات الداخلية، هي: وزارة الاستخبارات، وجهاز الاستخبارات التابع لـ «الحرس الثوري»، وشرطة الاستخبارات والأمن العام (“پافا”)، التي هي فرع من فروع “ناجا”. وتخضع كلّها لإشراف المرشد الأعلى بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وعلى الرغم من الصراعات على السلطة القائمة بين هذه الهيئات، إلّا أنها عادة ما تعمل معاً لحماية النظام.
وقد تغلغلت هذه المنظمات داخل المجتمع الإيراني من خلال شبكتين رئيسيتين هما “حراسات” وجهاز الاستخبارات التابع لـ «الحرس الثوري». وأنشأت وزارة الاستخبارات فروعاً لـ “حراسات” في كل منظمة مدنية وجامعة في البلاد، وكلّفتها بتحديد التهديدات الأمنية المحتملة. ووفقاً لبعض التقارير يقوم مسؤولو “حراسات” بمراقبة الموظفين (على سبيل المثال، عن طريق رصد اتصالاتهم)، والعمل كمخبرين، والتأثير بإجراءات التوظيف والفصل من الخدمة.
ولدى جهاز الاستخبارات التابع لـ «الحرس الثوري» أيضاً شبكته الاجتماعية الواسعة، المعروفة بموظفي استخبارات “الباسيج” (ستاد خبری بسیج)، والمنتشر أفرادها في كافة مقاطعات “الباسيج” البالغ عددها 4,000 مقاطعة. وكما هو الحال مع “حراسات”، يعمل ضباط استخبارات “الباسيج” كعيون النظام وآذانه من خلال مراقبة أنشطة المواطنين وحفظ الملفات حول الناشطين المحليين.
إنّ “پافا” (جهاز أمن واستخبارات إيران) مسؤولة عن جمع المعلومات الاستخبارية في الأحياء والنفاذ إلى النقابات الإيرانية، واعتقال أي عامل يُعتبر أنّه يقوم بأعمال مؤذية جداً. وللقيام بذلك، تدير “پافا” شبكة من المخبرين المحليين (مخبر محلي أو کارآگاه محلي) لجمع الأخبار والشائعات، وقد كُلّفت أيضاً بالقيام بأنشطة دينية والتقصّي عن المنازل المستخدمة للعبادة المسيحية.
وتشكّل السلطة القضائية جزءاً رئيسياً آخر من الجهاز القسري الإيراني. وبالإضافة إلى المحاكم العامة، يشمل النظام محكمتين رئيسيتين خارج نطاق الدستور، وهما المحكمة الخاصة لرجال الدين (المسؤولة عن ترهيب رجال الدين المعارضين وإسكاتهم) والمحاكم الثورية الإسلامية (التي تحاكم الجرائم مثل ترويج المعارضة ضد النظام). ولطالما عملت هذه المحاكم الأخيرة على قمع الانتفاضات، بما في ذلك أعمال الشغب التي وقعت في مدينتي مشهد وشيراز عام 1992 (حيث حُكم على بعض المتظاهرين بالإعدام في محاكمات سريعة) و”الحركة الخضراء” عام 2009 (حيث حُكم على الناشطين بالسجن لفترات طويلة).
تكتيكات مختلفة لكل حالة أمنية
على الرغم من أنّ هذه الهيئات القسرية تعمل معاً لضمان بقاء النظام، إلّا أن مهامها تختلف بناء على الحالة الأمنية السائدة في إيران، ويتم تكليفها بواحدة من أربع فئات في أيّ وقت من الأوقات: البيضاء والرمادية والصفراء والحمراء. وترتبط الحالة البيضاء بالنظام العام العادي. أمّا الرمادية فتصبح سارية المفعول عندما تقوّض عناصر المعارضة غير المنظّمة النظام العام بصورة سلمية، دون أيّ دلائل على عمليات مدمّرة. وفي هذه الحالة، تكون الشرطة مسؤولة أساساً عن السيطرة على الوضع والحفاظ على النظام. وتقدّم مكاتب “الباسيج” المساعدة للشرطة من أجل إخماد أيّ إضرابات، في حين يساعد أفراد “حراسات” على جمع المعلومات الاستخباراتية وتحديد هويات المتظاهرين. فعلى سبيل المثال، في الفترة الممتدّة بين 2005 و2006، قمع النظام إضراب سائقي الحافلات من خلال استخدام أعضاء “الباسيج” من مؤسسات حكومية أخرى لنقل الركاب والحفاظ على تدفّق حركة المرور. وإذا ما تفاقمت حدّة هذه الإضرابات، تكون القوة الخاصة لمكافحة الإرهاب (نیروی ویژه پاد وحشت أو “نوپو”) التابعة لـ “ناجا” مسؤولة بشكل رئيسي عن إجراءات مكافحة الشغب.
وإذا لم تتمكن الشرطة من السيطرة على حالة معينة وازدادت الأزمة تفاقماً، يستدعي النظام الحالة الصفراء، التي بدأت فيها المعارضة المنظمة أشكالاً أكثر عنفاً من الاحتجاجات مثل الإخلال بالنظام، وإعاقة الوصول إلى الأماكن العامة، والهجوم على المباني العامة. ورداً على ذلك، يتعيّن على “الباسيج” العمل بشكل أوثق مع الشرطة من خلال تكثيف أنشطتهم الاستخبارية وزيادة دورياتهم ومحطات التفتيش التابعة لهم. أمّا ضباط “الباسيج” بالزي المدني فهم مسؤولون عن اختراق المظاهرات، وتحديد هويات النشطاء، وتضليل المتظاهرين. كما ينتشر أعضاء “الباسيج” الآخرون بالقرب من أفراد الشرطة، ويسجّلون أشرطة الفيديو ويهاجمون الناس في بعض الأحيان. وفي بعض الحالات، يستخدمون الدراجات النارية للسيطرة على الشوارع، واحتواء الاضطرابات، وترهيب المتظاهرين، باستخدامهم القوة حسب الحاجة لتفريق الناس.
ويجدر بالذكر أنّ “ناجا” طلبت المساعدة من بعض مقاطعات “الباسيج” بعد توسّع رقعة الاحتجاجات الأخيرة. وعلى الرغم من أنّ الشرطة لم تكن مستعدة تماماً لعمليات السيطرة على الحشود في عام 2009، إلا أنّها أصبحت أكثر استعداداً اليوم، حيث أبلغ بعض شهود العيان عن زيادة كفاءتها. وينطبق ذلك بصفة خاصّة على المدن الكبيرة حيث مارست أنشطة مكافحة الشغب طوال سنوات. أمّا في المدن الأصغر مساحة، فيشارك موظفون عديمو الخبرة أو من ذوي التدريب البسيط في هذه المهام، مما يؤدي إلى وقوع إصابات أكبر بسبب الخوف وعدم الاحتراف المهني.
وأخيراً، إذا فشلت التدابير المذكورة أعلاه في استعادة السيطرة على الأمور، يزداد مستوى الأمن إلى الحالة الحمراء، حيث تُعرّف الأوضاع بأزمة توسّعت فيها رقعة الثورات في كافة أنحاء البلاد وقيام المعارضة باستخدام الأسلحة. وفي هذه الحالة، يسيطر «الحرس الثوري» بشكل كامل على العمليات الداخلية، ويتوجّب على جميع القوات الأخرى العمل مع «الحرس» لاستعادة السيطرة على الأمور. وخلال الاحتجاجات الحالية، أفادت التقارير عن نشر قوات «الحرس الثوري» في ثلاث مقاطعات لسحق المظاهرات.
استغلال الاستياء من الطبقية
لطالما تميّز أعضاء الجهاز القسري الإيراني بحماسهم في قمع المنشقين. ولتجنيد أفراد عسكريين تابعين لـ”ناجا” وأجهزة مماثلة، كان النظام يستمد من “الباسيج” ولسنوات طويلة الأفراد الذين غالباً ما ينحدرون من الأسر التقليدية من الطبقتين الدنيا والوسطى الدنيا، من ذوي المستوى الثقافي الأدنى. ومنذ عام 2000، تم تجنيد جميع أعضاء «الحرس الثوري» من الأسر الراسخة لـ “الباسيج” و «الحرس الثوري»، وتعتمد الشرطة اليوم الاتجاه نفسه. ووفقاً لرئيس “ناجا”، فإنّ أكثر من 80 في المائة من أفراد الشرطة الجدد الذين تم تعيينهم في عام 2007 تم اختيارهم من “الباسيج”، وقد تعهد في عام 2011 بزيادة هذا العدد إلى 100 في المائة. وبالنسبة إلى جهاز الأمن، بما في ذلك وزارة الاستخبارات وجهاز الاستخبارات التابع لـ «الحرس الثوري»، فهو يجنّد بشكل رئيسي الأفراد من المدارس الدينية، مع أنه يستمد أيضاً الأفراد من “الباسيج” في بعض الأحيان (والعديد من طلاب الحوزات وأعضاء “الباسيج”).
وفي ضوء هذه الخلفية، لم يكن لدى العديد من أفراد الشرطة و”الباسيج” أيّ هواجس حيال القمع الصارم لـ “الحركة الخضراء”، بناء على الكراهية والغضب اللذين شعروا بهما تجاه نشطاء المعارضة الذين اعتبروهم أفراد من الطبقتين العليا والوسطى العليا. ومن غير الواضح مدى تأثير هذه المشاعر خلال الاضطرابات الحالية، وذلك لأنّ المحللين يشيرون إلى أنّ العديد من المتظاهرين في المقاطعات النائية ينحدرون من الطبقات الدنيا نفسها، على عكس ما كان في عام 2009. ولكن النظام حرص على تكملة الخلفية الاجتماعية والاقتصادية المتجانسة لأفراد جهازه الأمني بمستويات هائلة من التلقين من أجل ضمان ولائهم، وإعادة تأكيد معتقداتهم المُحافِظة، وجعلهم أكثر ميلاً لدعم القيادة الدينية ضد أيّ حركة معارضة، بغض النظر عن المنزلة.
وفي النهاية، من غير المرجح أن تنجح الاحتجاجات الأخيرة طالما تحتفظ أجهزة الأمن الإيرانية بالقدرة على القمع والرغبة فيه. ولكن يمكن أن يقوم عدد كبير من المتغيّرات بتقويض كلا العنصرين، من بينها التقسيم الداخلي بين نخب النظام، والاحتجاجات الموسّعة، والضغط الدولي بشأن انتهاكات حقوق الإنسان.
سعيد جولكار
معهد واشنطن