سقطت قوة أميركا العالمية ونفوذها مثل الصخرة خلال رئاسة ترامب. وقد زعم وزير الخارجية الأميركية ريك تيلرسون، عكس ذلك في مقال افتتاحي نشر في صحيفة “نيويورك تايمز”، لكنه مخطئ بكل وضوح.
الإمبراطورية الأميركية تنهار
ما يدمره الرئيس ترامب هو نتاج أعوام ما بعد الحرب. ففي الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بنت أميركا ما ارتقى إلى إمبراطورية على امتداد العالم، بمساعدة نشطة وفعالة من أوروبا الغربية. وكان التبرير المباشر هو بناء ائتلاف عسكري قادر على التصدي للاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية واحتوائهما -وكان هناك هدف ثانوي مهم آخر، والذي تمثل في إقامة نظام اقتصادي صلب لضمان الازدهار وإدارة التجارة وتجنب الكساد والركود.
نفذت تلك الإمبراطورية سلسلة من الأعمال العدائية وارتكبت جرائم حرب –في خليط من الانقلابات والحروب الفاشلة التي لا طائل منها، ومن إساءة معاملة بلدان فقيرة لا حول لها ولا قوة. وفي أمكنة أخرى، صنعت أميركا سلاماً سخيفاً مع دكتاتوريات وحشية. ولم يكن أداؤها في إفريقيا والشرق الأوسط جيداً.
ولكن، عندما يتعلق الأمر بأوروبا الغربية والولايات المتحدة وكندا واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ونيوزيلندا، فقد عملت الأمور على نحو جيد جداً. وقد أعيد بسرعة بناء أوروبا الغربية التي كانت تقف على فوهة بركان بعد الحرب بشكل خاص بموجب خطة مارشال السخية إلى حد مدهش. وأدرك صانعو السياسة الأميركية أن ترك أوروبا تتقسم إلى قطع في سنوات الحرب كان خطأ كارثياً -حتى على أرضيات خادمة للذات. وكان الأمر ببساطة أنه إذا أريد للرأسمالية الليبرالية الديمقراطية أن تستديم، فلا يوجد بديل عن تشكيل نظام دولي عامل يوفر أمناً اقتصادياً وعسكرياً -للبلدان الرأسماليىة الغنية على الأقل. دعوا الرأسمالية تفجر نفسها، وسيكون لديكم هتلر –ولكن، انتشلوا أوروبا وأوقفوها ثانية على قدميها، وستكون لديها الأموال لشراء الصادرات الأميركية.
تكوَّن إطار العمل الإمبريالي الأميركي من القوة الجامحة للجيش الأميركي؛ والتمويل غير المتناسب والنفوذ الكبير على الأمم المتحدة ووكالاتها الفرعية المختلفة، بالإضافة إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ ومن الدولار الأميركي كعملة احتياط عالمية، وسندات الخزينة الأميركية كأصل عالمي رئيسي؛ والأهم من كل ذلك هو الشعور الدقيق في الغالب لدى القوى الغربية بأن الاحتماء بالمظلة الأمنية الأميركية كان صفقة جيدة.
بإلقاء نظرة على الماضي، سوف نجد أن سقوط الاتحاد السوفياتي كان بمثابة صفعة قوية موجهة ضد هذا النظام. لبعض الوقت مضى هذا النظام تلقائياً بقيادة الطيار الآلي، لكن غياب أي قوة موازنة للولايات المتحدة مكَّن عدوانية جورج دبليو بوش المتبجحة واستغلال التحالفات الأوروبية الثانوية لتنفيذ الغزو الكارثي للعراق.
وفي الأثناء، أحدث الرأسماليون الليبراليون الجدد المنتصرون المزيد من الشقوق الكبيرة في النظام من خلال تحطيم ما تبقى من التنظيم المالي الدولي ونظام التجارة المدار، وتهيئة المسرح لنوع الأزمة المالية العالمية والكساد الذي لم نشاهد له مثيلاً منذ العام 1929.
والآن لدينا ترامب، دكتورنا المحتمل المشوش التفكير، بينما تتعامل القوى الغربية مع الاحتمال الصادم بأن من الأفضل اعتبار أميركا عدواً. وفي أول جولة سياسة خارجية له، وبينما كان يخطب ود العرب المستبدين، أزعج ترامب القادة الأوروبيين الغربيين بلا سبب، وخاصة أنجيلا ميركل، التي قالت بعد ذلك: “لقد ولت الحقبة التي كنا نستطيع أن نعتمد فيها كُلية على الآخرين، جزئياً على الأقل”. كما شق ترامب على نحو سيئ تحالف المملكة المتحدة ببساطة من خلال إعادة تغريد أقوال فاشي بريطاني بشكل متهور، مما أذكى نار الغضب في عموم البلد.
كما أن ترامب يجعل وزارة الخارجية تبلى وتتعفن أيضاً. وقد تم ملء 61 فقط من أصل 154 وظيفة بحاجة إلى مصادقة مجلس الشيوخ، وثمة العديد من المناصب الرئيسية التي ليس هناك حتى مرشحين لشغلها -مثل منصب السفير لدى كوريا الجنوبية. وما تزال الوزارة تنزف دماغياً على مستوى موظفي الكوادر العليا، لكن ترامب لا يكترث -وقال عندما سئل عن الوزارة: “أنا هو الوحيد الذي يهم”.
بُنِيت الإمبراطورية الأميركية بسواعد وعقول أناس كانوا يعرفون أن أفضل طريقة لممارسة القوة تكمن في الغالب في وسائل غير قهرية. لكن ترامب يمثل تقليداً مخالفاً -تقليداً ضاغطاً وجاهلاً وعدوانياً وغير آمن، واحداً يصر على أن القوة العسكرية والعدوانية الحربية فقط هي التي تهم.
كما ذكرت أعلاه، من الجدير التأكيد على المجازر المرعبة التي ارتكبتها الإمبريالية الأميركية في أماكن مثل غواتيمالا وفيتنام أو العراق. لكن هذا النوع من الانهيار الفوضوي ربما يكون الأسوأ في كل العوالم. ولعل الدولتين غير الاستبداديتين الأكثر ترجيحا لملء بعض الفراغ في القوة، هما ألمانيا وفرنسا، لكنهما عالقتان في شرك الفشل الذريع لمنطقة العملة التي ستضرب قوتهما لأجل غير محدد. كان مكمن الجوهر الحقيقي للإمبراطورية الأميركية دائماً في علاقتها اللبقة مع البلدان الغربية. وبذهاب هذا الشيء ستذهب معظم قوتها أيضاً. لكنها سوف تحتفظ بأكثر مما هو كاف من القوة لضرب البلدان الفقيرة في المستقبل المنظور. ويبدو أن الصين هي الخلف الأكثر وضوحاً للولايات المتحدة، وأن من الآمن القول بأن ذلك النوع من الإمبراطورية سوف لن يكون أفضل من النسخة الأميركية –بل ربما أسوأ ببعض الطرق.
سوف يجد الرؤساء المستقبليون عملهم محدداً وجاهزاً لهم، والمتمثل في إنقاذ أي نوع من نظام دولي عامل من تبعات كارثة ترامب.
ريان كوبر
صحيفة الغد