حتى كتابة هذه السطور، ما يزال العديد من الإيرانيين في الشوارع، لكن الاحتجاجات التي هزت أركان إيران يبدو أنها تراجعت وخفتت. وكان الإيرانيون قد خرجوا اعتباراً من 28 كانون الأول (ديسمبر) الماضي للشكوى من الأسعار العالية والأجور المنخفضة والافتقار إلى الوظائف. ووضعت وزارة الداخلية الإيرانية رقم حشود المحتجين عند 42.000 شخص انتشروا في عشرات المدن والبلدات الإيرانية. وحتى لو كان ذلك سوء تقدير، فإن هذه الاحتجاجات تقل كثيراً عن مثيلاتها التي جرت قبل تسعة أعوام، عندما تظاهر مئات الآلاف من الإيرانيين احتجاجاً على انتخابات رئاسية مشكوك في نزاهتها. ومع ذلك، هزت القلاقل أركان النظام فيما يعود جزئياً إلى أن المتظاهرين دعوا إلى تغيير كامل للحكومة. لكن الرد كان عنيفاً. فقد قتل أكثر من 20 شخصاً. ويقول نائب إصلاحي إن 3.700 شخص اعتقلوا.
والآن، بعد أن تراجعت الاحتجاجات، يتدارس النظام وبلدان في الغرب خطواتهم التالية. ويوم 9 كانون الثاني (يناير) الحالي، ألقى المرشد الديني الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، باللائمة على أميركا وبريطانيا في الاحتجاجات، ويدعي مسؤولوه بأن لديهم حججاً وأدلة على أن الاحتجاجات كانت موجهة من الخارج. وقال خامنئي في تغريدة على وسيلة التواصل الاجتماعية “تويتر” إن هذه الاحتجاجات “لن تمضي من دون رد”. لكن الحكومة وجهت اللوم حتى الآن إلى تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية، محذرة من “غزو ثقافي”.
وكان النظام الإيراني اعترف بوجود مشاكل نشأت في الوطن. وقال السيد خامنئي إنه يجب “التعامل مع مكامن معاناة المحتجين والاستماع إليها”. ومن جهته، ذهب الرئيس حسن روحاني إلى ما هو أبعد من ذلك، فقال إن القلاقل نجمت عن قيود ثقافية ومجتمعية فرضها رجال الدين. ولام “الفجوة القائمة بين المسؤولين والشباب”. لكنه قد يكافح من أجل تضييق هذه الفجوة وسدها. وتشهد رئاسته الكثير من الاقتتال الداخلي، كما أن المتشددين الذين يتوافرون على قصب السبق في القوة لا يولونه ثقتهم. وقد تعمد الحكومة بدلاً من ذلك إلى التركيز على المجالات التي يوجد اتفاق حولها، مثل إغلاق مؤسسات الائتمان غير المشروعة، والتي أفلس العديد منها، مما نحَت ودائع الإيرانيين العاديين.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، امتدح المحتجين لأنهم “نهضوا أخيراً ضد النظام الإيراني الوحشي والفاسد”. لكن البعض في أميركا وأوروبا يخشون من أن يفضي تبنيهم للمعارضين إلى تقويض الأخيرين. وكان تفكير مشابه قد دفع باراك أوباما إلى التزام الصمت في العام 2009. وحتى في ذلك الحين، اتهم النظام المحتجين بأنهم عملاء أجانب.
وهذه المرة، لزمت الحكومات الأوروبية الصمت قرابة الأسبوع بعد أولى علامات ظهرت عن القلاقل. وعندما كسرت فيدريكا موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جدار الصمت أخيراً، فقد كان ذلك فقط لكي تدعو إلى ضبط النفس. ومن ناحيته، انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أميركا وحلفاءها الشرق أوسطيين، لدعمهم المحتجين جهراً.
للاتحاد الأوروبي اهتمام أكبر بمصير الاتفاق النووي بين إيران وست قوى عالمية. فبعد أعوام من الدبلوماسية المضنية، فرضت الاتفاقية التي وقعت في العام 2015 حدوداً على البرنامج النووي الإيراني في مقابل إزالة القيود والعقوبات. وتقول وكالة الطاقة الدولية، التي تفتش المرافق النووية الإيرانية، إن إيران تحافظ على التزاماتها وفق الصفقة. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، رفض السيد ترامب المصادقة على تقيد إيران بالصفقة، كما يفترض به أن يفعل كل ثلاثة أشهر. وبينما كان هذا الموضوع في طريقه إلى المطبعة، حل موعد المراجعة التالية لهذا الموضوع.
في المرة الأخيرة، توقف السيد ترامب عند إعادة فرض العقوبات الأميركية، مما كان سيدفع إيران إلى الانسحاب من الصفقة. ومن المقرر أن يحدد مع انتصاف كانون الثاني (يناير) ما إذا كان سيفعل ذلك. ويشار إلى أن الدبلوماسيين الإيرانيين يشعرون بالقلق من أن الاحتجاجات قد تعطيه المسوغ لإعادة فرض العقوبات على إيران. ومن جهته، قال رئيس الطاقة النووية الإيرانية إنه قد يعمد عندئذٍ إلى وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة النووية. لكن لإيران مصلحة في المحافظة على الصفقة ودوام العلاقة مع الموقعين الآخرين عليها. وعلى النقيض من أميركا، رفع الاتحاد الأوروبي كل العقوبات الاقتصادية التي كان يفرضها على إيران. وإذا قررت إيران رفض عمل المفتشين النوويين، فإن الاتحاد الأوروبي قد يعيد فرض العقوبات أيضاً.
تستطيع البلدان الأوروبية ثني الرئيس ترامب عن نيته عن طريق العمل للتصدي لتدخل إيران في سورية والعراق وغيرهما. ويريد الكونغرس استخدام العقوبات المستهدفة لمعاقبة المسؤولين الإيرانيين الذين يتصدرون ملف الإساءة لحقوق الإنسان. وتستطيع أميركا أيضاً توسيع العقوبات الموجودة التي لها تداعيات غير مقصودة. وكان قد تم الاتصال بالعديد من المحتجين عبر “التلغرام”، تطبيق الرسائل الشائع، قبل أن يعمد النظام إلى غلقه. وربما يكون الناشطون في بلدان أخرى قد تحولوا إلى “سيغنال” -وهو نظام مماثل من الصعب إغلاقه، لأنه يستخدم منصة “غوغل” للوصول إلى مصادر المعلومات للتمويه على حركته. وهذه المنصة مغلقة في الجزء الضخم منها في إيران -من جانب “غوغل” نفسها التي تخشى من الوقوع ضحية للعقوبات الأميركية.
من شأن هذا التغيير المساعدة في المرحلة التالية من الاحتجاجات التي ستكون حتمية. وتجدر الإشارة إلى أن الإيرانيين كانوا قد علقوا آمالاً وتوقعات عريضة على السيد روحاني. لكنها لم تتحقق. وعلى الرغم من نمو إجمالي الناتج القومي الإيراني، فإن معدل البطالة في إيران يظل عالياً بعناد. وما يزال الفساد متفشياً، كما أن حالات النقص في المياه وبؤس جودة الهواء والاستجابة الفوضوية للزالزال المميت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ألحقت كلها الضرر بسمعة النظام. وفي تناقض مع احتجاجات العام 2009 التي كانت بقيادة النخبة الحضرية، وقعت القلاقل الأخيرة في بلدات ومدن صغيرة كانت قد رحبت بالثورة الإسلامية في العام 1979. لكن وعود الثورة الإيرانية أصبحت بعد جيل تقريباً تبدو جوفاء لنسبة ضخمة من الإيرانيين.
صحيفة الغد