بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، علاقة تستعصي على الفهم وتنتمي إلى نمط غير قابل للتوصيف أو التصنيف، ولا نظير له في تاريخ العلاقات الدولية. لذا تبدو هذه العلاقة، خصوصاً في طورها الراهن، أقرب إلى «الشذوذ» بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معنى. فالولايات المتحدة دولة كبرى تملك من عناصر القوة الشاملة ما يسمح لها بتبوؤ موقع القوة الأعظم في العالم ومكانتها، أما إسرائيل فليست سوى «دويلة» صغيرة حديثة النشأة، لأن عمرها لا يزيد عن السبعين عاماً، ومحدودة القدرات والإمكانات، لأن تعداد سكانها لا يزيد عن تسعة ملايين نسمة، ومساحتها تتجاوز بالكاد عشرين ألف كيلومتر مربع. صحيح أنها تنتمي في التصنيف العالمي إلى شريحة الدول المتقدمة والغنية، نظراً الى تقدمها العلمي والتكنولوجي وارتفاع متوسط دخل الفرد فيها، لكن ليس في وسعها أن تحافظ على هذا المستوى من التقدم والغني من دون ما تقدمه لها الولايات المتحدة الأميركية من دعم مادي هائل، عبر القنوات الرسمية والشعبية، لا يقل سنوياً عن عشرة بليونات دولار. ومع ذلك، يصعب التعامل مع إسرائيل كأنها مجرد دولة «تابعة» تدور في الفلك الأميركي، خصوصاً في ظل ما حققته من تغلغل داخل مراكز التأثير الأميركي، التي تحولت إلى أداة تسخّرها لخدمة مصالحها الخاصة حتى وإن تناقضت مع المصالح الأميركية نفسها!
في سياق كهذا، تتجلى صورة الولايات المتحدة، في ذهني على الأقل، كجسد عملاق مفتول العضلات، استولت إسرائيل على عقله وقلبه، وتسللت إلى جهازه العصبي ودورته الدموية، أو كعربات متصلة لقطار طويل تجره قاطرة إسرائيلية. ولأن إسرائيل نجحت في إقناع الولايات المتحدة، أو بالأحرى إيهامها، بأن كل ما يحقق مصلحة إسرائيل يحقق المصلحة الأميركية في الوقت نفسه، أجدني أكثر ميلاً إلى الاعتقاد بأن إسرائيل هي التي تقود السياسة الأميركية في كل ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، على الأقل، وهو ما يفسر لنا لماذا تتصرف إسرائيل كأنها قوة عظمى غير قابلة للحساب والعقاب، وفي وسعها انتهاك كل ما تشاء من قواعد القانون الدولي، التي لا تتسق مع مصالحها الخاصة!
في تاريخ العلاقات الدولية أمثلة ونماذج لعلاقات «خاصة» تربط بين دول غير متكافئة القوة، وأمثلة ونماذج لأدوار «كبيرة» تقوم بها دول «صغيرة» في أوقات وظروف معينة أو استثنائية، لكن لا يوجد فيه مثال واحد لدولة صغيرة سيئة السمعة والسلوك استطاعت أن تمسك بدفة السياسة الخارجية لقوة عظمى تملك من عناصر القوة المادية ما يسمح لها بتبوؤ موقع القيادة في النظام الدولي، وتدعي أن لديها من عناصر القوة المعنوية ما يؤهلها لتبوؤ هذه المكانة. في تاريخ العلاقات الدولية مثال واحد لدولة صغيرة تُسمى إسرائيل، استطاعت، من خلال عمل مثابر ومتدرج ومتقن، أن تستولي على عقل القوة الأعظم في العالم وقلبها، وهو وضع له أخطاره وانعكاساته السلبية الهائلة على السلم والأمن الدوليين، خصوصاً أن إسرائيل هي الدولة الأكثر انتهاكاً في عالم اليوم لقواعد القانون الدولي. والسؤال: كيف حدث ذلك؟
كانت الحركة الصهيونية قد تنبهت مبكراً إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً بعد إنهاء حالة العزلة ومشاركتها في الحرب العالمية الثانية، هي الدولة المرشحة طبيعياً لقيادة النظام العالمي خلفاً لبريطانيا الآخذ نجمها في الأفول، ومن ثم قررت أن ترمي بشباكها في هذا الاتجاه، وكان انعقاد المؤتمر الصهيوني في مدينة بلتيمور الأميركية عام 1942، وبمشاركة ترومان الذي أصبح سيد البيت البيض بعد أقل من ثلاث سنوات، في مثابة الخطة الأولى في هذا الاتجاه. ولا جدال في أن هذا التحرك البارع مكّن الحركة الصهيونية من كسب أولى معاركها السياسية الكبرى التي دارت رحاها فوق مسرح الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 وانتهت بتبني قرار تقسيم فلسطين، وهو القرار الذي وضع اللبنة الأولى لإضفاء الشرعية الدولية على الدولة اليهودية التي أعلن بن غوريون قيامها عام 1948. ومنذ ذلك الوقت، راحت الحركة الصهيونية تغزل شباك السيطرة التدريجية على مراكز صنع القرار الأميركي إلى أن تمكنت منها تماماً. صحيح أن هذه الحركة منيت عام 1956 بنكسة على الطريق، فرضتها تعقيدات النظام الدولي ثنائي القطبية وما انطوى عليه من قيود أملتها سياسة احتواء الاتحاد السوفياتي، غير أن الحركة الصهيونية ما لبثت أن استعادت ثقتها بنفسها وراحت تتبنى سياسة الاعتماد على الذات كي تثبت للولايات المتحدة أنها حليف يمكن الاعتماد عليه، وفي وسعه تقديم خدمات أكبر بكثير مما تستطيعه الحركة القومية العربية المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي. وعندما تمكنت إسرائيل من تقديم برهان قاطع على صحة ما تقول، بتمكّنها من إلحاق هزيمة عسكرية ساحقة بجيوش ثلاث دول عربية مجتمعة عام 1967، أدركت الولايات المتحدة أهميتها كحليف استراتيجي في المواجهة الشاملة مع الاتحاد السوفياتي، ومن ثم قررت أن تقدم لها دعماً غير محدود أو مشروط ورفضت كل الضغوط الدولية الرامية الى حملها على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها عام 67، وربطت الانسحاب منها بالتوصل إلى تسوية سياسية شاملة تتضمن إنهاء حالة الحرب وتطبيع العلاقة بين إسرائيل والدول العربية.
والواقع، أن هذا الموقف الأميركي، رغم انحيازه الواضح الى إسرائيل، بدا في نظر كثيرين ضرورياً للتوصل إلى صيغة تسمح بتسوية متوازنة لمجمل قضايا الصراع العربي – الإسرائيلي، والتي عُرفت في ما بعد بصيغة «الأرض مقابل السلام». وقد قبلت مصر هذه الصيغة عقب حرب 73 ثم اضطرت الدول العربية لقبولها تباعاً في النهاية، إلى أن تم تبنيها في شكل جماعي في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في بيروت عام 2002. ولو كانت الولايات المتحدة قد ألقت بثقلها وراء هذه الصيغة، والتي تعني انسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس الشرقية، مقابل إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل كخطوة أولى نحو إقامة علاقات طبيعية كاملة بينها وبين الدول العربية، لكانت قد قدمت خدمة جليلة ليس فقط لإسرائيل والدول العربية وإنما للولايات المتحدة نفسها وللسلام العالمي ككل. غير أن إسرائيل، والتي راحت تتجه يميناً باستمرار منذ حرب 73، رفضت هذه الصيغة فعلياً رغم التظاهر بقبولها شكلياً، وبذلت كل ما في وسعها للإجهاز عليها نهائياً. ولأنها أدركت أنه لن يكون في مقدورها تقويض صيغة الأرض مقابل السلام نهائياً إلا إذا ضمنت انحياز الولايات المتحدة التام الى موقفها، فقد راحت إسرائيل تبذل كل ما في وسعها لسد الثغرات في علاقتها بالولايات المتحدة ولإحكام قبضتها أكثر فأكثر على مراكز صنع القرار الأميركي. ولا شك في أنها شعرت بقلق كبير عقب فوز أوباما في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2008. غير أن الصراع الذي نشب بين أوباما ونتانياهو، مكتوماً في البداية وصاخباً في أواخر أيام أوباما في البيت الأبيض، أكد مرة أخرى، وبما لا يدع مجالاً لأي شك، أن قبضة رئيس الوزراء الإسرائيلي على مفاصل الدولة الأميركية تبدو أشد من قبضة الرئيس الأميركي نفسه.
واليوم، يعتقد نتانياهو أن ترامب هو رجل إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، ومن الواضح أنه يشعر بالامتنان تجاه قراره الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية موحدة لدولة إسرائيل. ويبدو أن نتانياهو لم يدرك بعد ما ينطوي عليه الوضع الحالي من مفارقة قد لا تصب في مصلحة إسرائيل على المدى الطويل. فنتانياهو وترامب وجهان لعملة واحدة تعكس أحط ما يمكن للنفس البشرية الأمارة بالسوء أن تحمله من نوازع الشر والحض على كراهية ورفض الآخر المختلف واستبعاده وتهميشه، إذ يستحيل على أمثالهما الإيمان بقيم التسامح والتعايش.
لذا أعتقد أن السلام في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم لن يتحقق إلا إذا: تغيرت إسرائيل من الداخل، وهو ما يبدو لي أمراً مستبعداً إلى درجة الاستحالة.، أو تغيرت الولايات المتحدة من الداخل، وهو ما يبدو لي أمراً محتملاً لكن شروط تحققه لم تتوافر بعد، أو ظهور فجوة في المصالح بين إسرائيل والولايات المتحدة تؤدي إلى اندلاع الصراع الحتمي بينهما، الأمر الذي يصعب تصوّر حدوثه إلا إذا تغير العالم العربي وامتلك مصيره بنفسه. وهذا هو ما أعتقد أنه ينبغي أن يحدث، وسيحدث ولو بعد ألف عام.