لم تكن تعقيدات الحرب على عفرين هي الأولى التي تكشف الطابع الرث لـ «الاجتماع الوطني السوري»، وبالطبع لن تكون الأخيرة في شروط انفجار «التأخر التاريخي» المنبعث من قيعان «المجتمع» السوري، وقد تفلّت من آليات استبداد السلطة وضبطها، بعد أن استثمرت فيه أزيد من نصف قرن. لكن تلك الحرب تؤشّر إلى إشكاليات سورية عدة، تحكم على الأوضاع الداخلية بالتعفّن والاستنقاع، من أبرز هذه الإشكاليات:
أولاً، إن قيام فصائل «درع الفرات»، التي تنتمي إلى تقاطع الأكثريتين القومية والمذهبية، بالهجوم على مدينة عفرين السورية في حرب ترتبط بالمصالح القومية التركية العارية، وبمواجهة طرف سوري داخلي، يساهم في استمرار احتجاز دوري الأكثريتين العربية والسّنية المفترضين والواجبين في عملية التوحيد الداخلي، التي لا تستقيم مع الحرب والصراع، ومع ضياع واستلاب الدور الأكثري في الفصائلية المسلحة المركوبة خارجياً، حيث لا يمكن أي أكثرية أن تقوم بدور موحِّد مع تبديد وزنها الأكثري في تنظيمات وفصائل جزئية حصرية وعصبوية.
ثانياً، ليس من مصلحة الكرد والعرب السوريين ربط القضية الكردية السورية بالقضية الكردية في تركيا، بحيث تصبح قضية عابرة للحدود الوطنية، لأن هذا العبور، هو في الوقت ذاته، انحدار وسقوط في ثقوب الهويّة السوداء، التي تلتهم كل ما هو عام ومشترك ومعتدل بين السوريين. لذا، فإن الهجوم التركي على عفرين، مستلحِقاً به الفصائل الإسلامية المسلحة، يزيد من منسوب هذا الربط، وينسجم ويتطابق (موضوعياً) مع سياسات حزب «الاتحاد الديموقراطي»، الذي يحاربونه تحت يافطة الارتباط التنظيمي والسياسي بـ «حزب العمال الكردستاني» التركي، وبهذا يعمل طرفا الصراع معاً على سلخ القضية الكردية من سياقها الوطني.
ثالثاً، تستعيد الفصائل الإسلامية المهاجمة تقليداً ميليشيوياً لبنانياً، ظهر إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كانت القوى الإسلامية المقاتلة تقول: «نحن لا نحارب المسيحيين بل نحارب حزب الكتائب، ونسعى الى عزله عن المسيحيين»، كذلك يقول الناطقون باسم فصائل «درع الفرات» التي تهاجم عفرين: «نحن لا نحارب الأكراد بل نحارب حزب الاتحاد الديموقراطي وميليشياته»، متجاهلين أن طرفاً هوويّاً لا يمكنه عزل طرف هوويّ آخر عن بيئته. بل على العكس من ذلك، فالحرب تقوي جميع الأطراف ما دون الوطنية، وتجعلها تستغرق في مضامينها الحصريّة. ومن نافل القول أن الفضاء العمومي وحده يملك إمكانات طرد الأطراف والقوى الهوويّة إلى الهوامش، فيما الاستيلاء على الفضاء العمومي من جانب قوى الإسلام السياسي أو القوى العروبية العصبوية، يقوّي الميول الانفصالية لدى الكرد السوريين وغيرهم.
رابعاً، أصبح ضياع الأكثريات المذهبية وهدرها في الأحزاب الإسلامية والميليشيات المسلحة ظاهرة مشرقية منتجة خراب الدول والمجتمعات، مع تحوّل هذه الميليشيات والأحزاب إلى أحزاب وميليشيات للإيجار، في خدمة السياسات التوسعية لـ «دول» امبراطورية مذهبية/ قومية على حساب وحدة البلدان المشرقية العربية وتماسكها الاجتماعي. فالأكثرية الشيعية العراقية التي هدر طابعها الأكثري «حزب الدعوة الإسلامي» وميليشيات «الحشد الشعبي»، ظلت في موقع «أقلوي سياسي» على المستوى الوطني، مثلما كانت حالها في عهد البعث. كذلك تكرر فصائل «درع الفرات»، بارتباطها بالسياسات الإمبراطورية التركية، نهج وسلوك نظيراتها العراقيات. فهدر الدور الأكثري للسّنة العرب يُبقيهم في وضع «أقلوي سياسي». ولعل ظهور قاسم سليماني في كركوك على رأس ميليشيات «الحشد الشعبي» عند هزيمة قوى البيشمركة الكردية، وظهور فصائل «درع الفرات» إلى جانب الدبابات التركية في محيط عفرين، يرمز إلى المدى الذي بلغه ضياع وهدر الأكثريات في الوثنية الفصائلية.
خامساً، تؤكد الحرب على عفرين، مرة أخرى، تشكل ثلاث مجموعات مسلحة في سورية متماثلة ومتشابهة في «الماهيات»: مجموعة السلطة وميليشياتها الرديفة، مجموعة الفصائل الإسلامية المسلحة على اختلاف مسمياتها وراياتها وتحالفاتها، ومجموعة الفصائل المسلحة الكردية التي يقودها حزب «الاتحاد الديموقراطي»، وتتشابه هذه المجموعات الثلاث في صفاتها الجزئية وانعدام الروح السورية العامة في سياساتها وثقافاتها وأخلاقياتها وسلوكياتها. فجميعها تتغذى من روح حصرية واحدة، تغتال فكرة المجال العام، وتزيد التحاجزات بين السوريين، وتعتمد سياسات الهويّة، وهذا يعقّد إمكانات الحل السياسي في سورية، ويهمّش القوى المجتمعية المعتدلة حاملة الخيارات السياسية، وبالتالي يُبقي الكارثة السورية مفتوحة في الأمد المنظور.
لينا الخطيب
صحيفة الحياة اللندنية