مرحلة ما بعد داعش: المعركة ضد الإرهاب تبدأ الآن

مرحلة ما بعد داعش: المعركة ضد الإرهاب تبدأ الآن

مراكش (المغرب) – بعد أكثر من ثلاث سنوات من إعلان أبوبكر البغدادي عن إقامة “الدولة الإسلامية” في التاسع والعشرين من يونيو 2014، يبدو في الظاهر وعلى ضوء أخبار قوات التحالف الدولي، أن داعش في طريقه إلى الأفول بفعل الهزائم العسكرية المتوالية التي تكبّدها في كل من العراق وسوريا.

لكن التجارب مع تنظيم القاعدة، بفروعه المتعددة، وسياسات بعض الدول مع جماعة الإخوان المسلمين، تكشف أن التعاطي الخاطئ مع هذا التهديد يجعل من “تراجعه” انتصارا قصير المدى، الأمر الذي يؤكد عليه خبراء شاركوا في أعمال مؤتمر دولي حول “ما بعد داعش.. التحديات المستقبلية في مواجهة التطرف”، تنظمه مؤسسة مؤمنون بلا حدود يومي 6 و7 أبريل 2018، بمدينة مراكش في المغرب.

وجاء في ورقة تقديم المؤتمر أن فكرة تنظيمه جاءت انطلاقا من قناعة مفادها أن مراكز الدراسات والأبحاث العربية والدولية انشغلت بواقع التنظيم واستراتيجيات الاستقطاب وتفاعلات القوى الإقليمية والدولية، ولم يتم الانتباه إلى مقتضى مرحلة ما بعد اندحاره العسكري في معاقله الرئيسية.

يروم هذا المؤتمر التفكير الجماعي والنوعي في مقتضيات هذه المرحلة، وذلك من خلال استشراف الحالة “الجهادية” في مرحلة ما بعد الاندحار الميداني لتنظيم داعش، والذي لم يرافقه لحدّ الساعة اندحار أيديولوجي في أذهان أتباعه، ناهيك عن خطورة تفرّعاته السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

أجمع خبراء من مختلف المجالات الفكرية والأمنية، شاركوا في أعمال مؤتمر دولي حول “ما بعد داعش.. التحديات المستقبلية في مواجهة التطرف”، على أن انهيار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا لا يعني الانتصار في الحرب على الإرهاب. وأكدت مختلف المداخلات، خلال المؤتمر الذي نظمته منظمة مؤمنون بلا حدود بمدينة مراكش المغربية، على أن الخطوة الأمنية والعسكرية، ولئن نجحت نسبيا في العراق، ويروج لنجاحها في سوريا، قياسا بتقلص الرقعة الجغرافية التي يتواجد عليها داعش، لا تعكس انتصارا كبيرا أو تقلص نسبة الخطر والتهديد، فالحرب العسكرية لم تصاحبها على نفس النسق حرب فكرية وإصلاحات اجتماعية ودعم لثقافة مضادة

وتحدث محمد المعزوز، أستاذ الأنثروبولوجيا السياسية بجامعة محمد الخامس، عن الأزمة الرئيسية في هذه القضية مشيرا إلى أن القراءة الأمنية لظاهرة داعش هي السائدة، لكنها لا تستطيع لوحدها ضبط المسارات الفكرية والأيديولوجية للتنظيم ومن يماثله ومن سيأتي بعده. وقال المعزوز في مداخلته إن “هناك قراءة تاريخية وصفية لظاهرة داعش ولم تكن أبدا قراءة استشرافية بالمفهوم الإبستمولوجي”، مشيرا إلى أن “القراءة الخطية والوصفية للظاهرة لا تعدو أن تكون سطحية”.

وحالت فظاعة الجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش وتوسّع دائرة نفوذه واستقطابه للآلاف من الشباب المغرّر به من البلدان العربية والغربية وغيرها دون الاشتغال النظري على الاحتمالات المرتبطة بمرحلة ما بعد القضاء على “دولته”، بما في ذلك التفكير في مصير الظاهرة المسماة “جهادية”، سواء تعلّق الأمر بتنظيم داعش أو تنظيم “القاعدة” أو باقي التنظيمات التي تعتبر نفسها “جهادية”.

وهنا، أشار محمد المعزوز إلى أن “تنظيم الدولة الإسلامية كانت له منهجية ومؤسسات ومنظرون وجهاز إعلامي ضخم وقوي وكان له نموذج تعليمي”، معبرا عن أسفه من أنه لم يتم التركيز على النظام التعليمي الذي تنبني مناهجه على التحايل في قراءة النص الديني وتأويله وتوليد مفاهيم خاصة بالإرهاب.

دور الإخوان
شهدت العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين طفرة جديدة في مسارات وتحولات الأيديولوجيات القاتلة، همّ جزء منها الحركات المسماة “جهادية”، والتي تمخّض عنها إعلان قيام ما سمّي بـ”تنظيم الدولة الإسلامية” المعروف اختصارا بتنظيم “داعش”، مع ما رافق ذلك من عمليات وحشية أُزهقت خلالها الأرواح وسُفكت الدماء في سلسلة من الاعتداءات الهمجية التي كان بعضها استنساخا لجرائم تنظيم القاعدة وخلاياه في أوروبا والعالم العربي وغيرهما.

وبخلاف أداء ومراحل تنظيم القاعدة، تميّزت مرحلة تنظيم داعش بالإعلان عن تأسيس “دولة الخلافة”، وهو الحدث الذي تسبّب في بروز خلافات بين شتى فصائل الحركات الإسلامية، الدعوية والسياسية و”الجهادية”، حول مشروعية الإعلان عن “دولة الخلافة” وشروطها ومقتضياتها.

وتسبّب أيضا في استقطاب الآلاف من الشباب “الجهادي” أو المتأثر بالخطاب والأدبيات “الجهادية”. وطال الاستقطاب حتى المسلمين حديثي العهد باعتناق الإسلام، وخاصة في الدول الأوروبية، والذين يصطلح عليهم البعض المولودين الجدد في “النسخة الإسلامية”.

وتجمع مختلف الدراسات، كما التحقيقات الرسمية، التي أمرت بها حكومات مثل الحكومة البريطانية في عهد ديفيد كاميرون، على أن المرجع الأول والرئيسي لهذه الجماعات وللفكر الجهادي عموما هو أدبيات جماعة الإخوان المسلمين.

وقال ديفيد بولوك الخبير الأميركي في الديناميكيات السياسية لدول الشرق الأوسط، إن “معظم الدول العربية اتجهت إلى اعتبار جماعة الإخوان المسلمين إرهابية”، وذلك بعد أن انتقلت من مرحلة التمكين مستغلة الفوضى التي عمت المنطقة في خضم أحداث الربيع العربي. وأضاف بولوك “نسبة المتعاطفين مع الإخوان تراجعت خلال السنتين الماضيتين، وتبين للكثيرين أن الجماعة، وإن كانت تظهر بمظهر غير عنيف، إلا أنها غير متسامحة وليست معتدلة كما تبدو”.

وذات التراجع حصده تنظيم الدولة الإسلامية، وفق بولوك الذي كشف مفارقة أدهشته هو نفسه، وهي المتعلقة بنسبة دعم داعش في تركيا، حيث قال الخبير الأميركي “دعم داعش وصل بين 2 و5 في المئة في معظم المجتمعات العربية، في حين وصلت نسبة دعم داعش في تركيا إلى 8 بالمئة وفي بعض دول الساحل والصحراء تصل النسبة إلى 15 في المئة أكثرها في السنغال و20 في المئة من النيجيريين يدعمون جماعة بوكوحرام التي بايعت داعش”. وأضاف “هناك القليل من التعاطف في معظم الدول العربية والإسلامية مع داعش والقاعدة مع وجود استثناءات، الصورة اليوم مختلفة عما كانت عليه بعد هجمات سبتمبر 2001 وغزو العراق في سنة 2003 والحرب اللبنانية الإسرائيلية في العام 2006”.

خطر العائدين
من أهم تحديات مرحلة ما بعد داعش مصير العدد الكبير من أعضاء التنظيم الذين اكتسبوا تجارب ميدانية. وإذا ما أخذنا في الاعتبار عدد هؤلاء، والذي يناهز حوالي 5 آلاف شخص منحدر من الدول الأوروبية، وما يفوق 6 آلاف شاب منحدر من منطقة شمال أفريقيا على سبيل المثال، فإن تراجع رقعة التنظيم الجغرافية في سوريا والعراق وانهيار “دولته” يصاحبه قلق أكبر حول عودة البقية من مقاتلي التنظيم إلى بلدانهم في العالم العربي والدول الغربية وغيرها.

وهكذا، فإن قائمة الأسئلة تزداد أرقا وتعقيدا، خاصة وأن الدول الأوروبية والعربية طالتها اعتداءات صادرة عن عناصر “جهادية” تُصنّف في خانة “الذئاب المنفردة” أو “الخلايا العنقودية”، التي لم يحط أعضاؤها الرحال في سوريا أو في العراق، ولم يتورّعوا مع ذلك عن شنّ اعتداءات إرهابية في دول مثل فرنسا، إسبانيا، بلجيكا، بريطانيا وألمانيا. وهو ما يعني أن الخطر قد يغدو داهما بعد عودة الدواعش من بؤر الصراع التي قاتل فيها تنظيم الدولة الإسلامية.

وتحدث في هذا السياق جون شارل برايزر، من مركز تحليل الإرهاب بباريس، قائلا “لدينا معلومات مؤكدة تقول إن مقاتلين أوروبيين انتقلوا إلى أفغانستان وآسيا الغربية. الآن في سوريا والعراق أصبحت قدرات التنظيم ضعيفة ونحن نرصد مرحلة انتقالية وإعادة ترتيب. فداعش يريد حشد وإلهام المتعاطفين معه، وبعدما اعتقدنا أن فقدان الدولة الإسلامية لموقعها بسوريا والعراق سيمحي وجوده كان اعتقادنا خاطئا”.

وأوضح الخبير الفرنسي أن تنظيم داعش استفاد من مناهج الجماعات التي سبقته وطور طريقة اشتغاله، حيث انتقل إلى ما يمكن تسميته بالخلافة الافتراضية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي حيث استقطبت متعاطفين كثيرين، لهذا فالوضع حرج الاستقطاب يتم بشحنهم.

مواجهة تنظيم داعش وغيره تتطلب الإجابة على أسئلة الهوية وحل الأزمات الاجتماعية ونشر الثقافة المضادة للتطرف

واعتبر أن التهديد القادم يكمن في العائدين من بؤر التوتر وما يسمى بـ”الذئاب المنفردة”، فأغلب العمليات الإرهابية التي شهدتها مدن أوروبية قام بها أفراد يعيشون فيها، منهم من سافر لسوريا ثم عاد، ومنهم من لم يغادر مدينته الأوروبية قط.

وأضاف أن قدرة تنظيم الدولة الإسلامية على الذهاب إلى مناطق بعيدة تبين أنه مدعوم ماليا ويستطيع نقل الأموال من مكان إلى آخر، مثلا من ليبيا حيث يتواجد الآن إلى آسيا الغربية. وهناك بعض المقاتلين بالتنظيم سيبقون داخل بعض الجيوب التقليدية، في سوريا والعراق، بالإضافة إلى ليبيا، وآخرون سيرحلون إلى مناطق أخرى من ذلك آسيا.

وأشار إلى أن “سوريا تتفرد بالمقاتلين الأجانب، وهي منطقة رمزية بالنسبة للتنظيم والجهاديين عموما كونها مرتكزا إسلاميا تاريخيا يوحي بالخلافة، وهذا المفهوم هو الذي سمح باستقطاب الجهاديين الأوروبيين ممن يفتقدون لهوية جامعة. فكرة الخلافة مازالت موجودة لدى التنظيم فكريا وتنظيميا ولهذا يتوجب علينا الإجابة على أسئلة الهوية والاقتصاد والنفسية لكي نحول دون امتداد الظاهرة لأماكن وعناصر بشرية أخرى”.

وخلص مداخلته بالإشادة بنجاح مقاربة المغرب في تفكيك الخلايا الإرهابية ومناهضة الفكر المتطرف ومساعدته للدول العربية وقد سمح في إيقاف هجمات محتملة وساهمت عناصر أمنية مغربية في تحقيقات بدول غربية تهم مجموعات إرهابية.

في ظل هذا الواقع، يجد المغرب نفسه في مواجهة تحديات أمنية محدقة في نطاق إقليمي مضطرب تميز بظهور عدة تنظيمات إرهابية عرفت نشاطاتها الإجرامية امتدادات نحو المنطقة المغاربية وصولا إلى منطقة الساحل حيث لوحظ انتشارها من ليبيا في اتجاه دول المنطقة.

تحديات تواجه المغرب
اعتبر عبدالحق الخيام مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية (تابع للمخابرات)، أن اندحار التنظيم المذكور بعد الهزائم التي مني بها في معاقله بسوريا والعراق وتشديد الرقابة الأمنية على الحدود السورية عاملان دفعاه إلى تغيير خارطة عملياته إلى مناطق جغرافية أخرى في آسيا وأفريقيا.

وقال الخيام، في كلمة ألقاها نيابة عنه حبوب الشرقاوي المكلف بقضايا الإرهاب في المكتب ذاته، إن “امتداد داعش لم يقتصر فقط على الساحة العراقية والسورية وإنما تجاوزها ليشمل منطقة المغرب العربي والساحل والصحراء الكبرى”. وأشار إلى أن “انهيار النظام الليبي كان سببا رئيسيا في تقوية مجموعة من الجماعات الإرهابية وخلق حالة من الفوضى التي أرخت بظلالها على منطقة المغرب العربي”.

ولاحظ الخيام أن هناك وجود تقاطع بين الجريمة المنظمة والهجرة السرية مع الجريمة الإرهابية، وقال “كان من أبرز عوامله انتشار السلاح بشكل عشوائي بمناطق شاسعة بالصحراء غير خاضعة للرقابة تنشط فيها بكثرة عناصر ما يسمى بجبهة البوليساريو، حيث بينت الإحصائيات أن ما يزيد عن 200 انفصالي ينشطون في صفوف تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي والجماعات الإرهابية المتواجدة بهذه المنطقة”.

وأكد الخيام أن بلاده كثفت من جهودها الأمنية من أجل مكافحة التنظيم الإرهابي في ظل بروز منطقة المغرب العربي والساحل كأهم بديل جغرافي لأتباع التنظيم من أجل استمرار أنشطتهم الإرهابية. وأوضح أن المغرب عمل من خلال سياسته الأمنية الاستباقية منذ مارس 2015 على تفكيك 53 خلية إرهابية، منها 48 مرتبطة مباشرة بتنظيم الدولة الإسلامية.

وخلص المسؤول الأمني المغربي مؤكدا على ما سبق وطرحه مختلف المتحدثين في مداخلات اليوم الأول للمؤتمر، بأن “القضاء على داعش في العراق وسوريا لا يعتبر انتصارا نهائيا إنما هو ولادة جديدة له بمناطق أخرى من العالم وخاصة ليبيا”. ودعا الخيام دول المنطقة إلى اعتماد “استراتيجيات فاعلة لتجنب حمامات دم مستقبلية”.

العرب