يأتي الاستحقاق الانتخابي العراقي وسط متغيرات ميدانية وسياسية في بلاد الرافدين يتوقع متابعون أن تؤدي إلى تغييرات في المشهد السياسي، لكن لعبة التوازنات بين الكتل في الداخل والتحالفات الخارجية خصوصا بين طهران وواشنطن ستبقى المهيمنة.
ويتنافس في الانتخابات -التي دعي إليها 24.5 مليون عراقي- أكثر من سبعة آلاف مرشح يمثلون 320 حزبا وقائمة وائتلافا لشغل 328 مقعدا في البرلمان. وتجري في ظروف أمنية أفضل إثر هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية مناطق شاسعة سيطر عليها في الشمال العراقي بعد ثلاث سنوات من الحرب.
وفي دلالة على تحسن الوضع الأمني منذ هزيمة تنظيم الدولة أشار معهد “إيراك بادي كاونت” إلى تراجع عدد ضحايا العنف السياسي والطائفي في العراق خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام 2018 بما نسبته 73%.
وترى صحيفة تايمز البريطانية أن الناخبين العراقيين “المتعبين” من الطائفية يتطلعون إلى الأحزاب المعتدلة والحديثة من أجل التغيير، فيما ترى صحيفة إندبندنت إلى أن العراقيين سئموا من الحرس القديم، لكن المرشحين الجدد ليس لديهم كثيرا من الأفكار والحظوظ أيضا.
ورغم الإقرار بالبعد الديمقراطي في العملية الانتخابية، يرى متابعون أن العوامل الخارجية -خصوصا إيران والولايات المتحدة- مهمة للغاية، إضافة إلى بروز مشكلة الطائفية والعشائرية والمال السياسي مما سيؤدي عمليا إلى إقامة “برلمان عشائري طائفي” رغم البعد الديمقراطي والتعددي فيه.
ويرى محللون إلى أن التجربة العراقية في الانتخابات السابقة والتي بنيت على قاعدة دستورية تثبّت المحاصصة الطائفية -خصوصا في مسالة الرئاسات الثلاث- والاحتجاجات الواسعة في الأعوام الأخيرة على الفساد والمحسوبية لا تنبئ بتغييرات كبيرة رغم التحسينات التي طرأت على المسائل الإجرائية لعملية الاقتراع والرقابة والمشاركة والفرز.
صراع اللوائح والطوائف
وتتنافس في الانتخابات عدة ائتلافات وقائمات، أبرزها “ائتلاف النصر” الذي يقوده حيدر العبادي ويواجه منافسة قوية من نوري المالكي الذي يقود ائتلاف دولة القانون، و”ائتلاف الفتح” المرتبط بـالحشد الشعبي، ويقوده زعيم منظمة بدر هادي العامري، وتحالف “سائرون” (الصدري) والشيوعيون، و”تيار الحكمة” بزعامة عمار الحكيم. كما يبرز “ائتلاف الوطنية” و”تحالف بغداد”، وقائمة “التضامن العراقي”، وتهيمن عليهما أحزاب وشخصيات سنية.
ولا يتوقع المراقبون أن يتمكن أي من الائتلافات والأحزاب المتنافسة من نيل الأغلبية البسيطة، وهي 165 مقعدا، وباعتبار أن هذا الاقتراع قد لا يفرز فائزا واضحا، فإن تشكيل الحكومة القادمة قد يستغرق عدة أشهر.
ويشير محللون عراقيون إلى أن الشيعة بعد سقوط نظام الراحل صدام حسين عام 2003، كانوا يحرصون على نوع من الوحدة لضمان سلطتهم، ولكن انقسامات عديدة حصلت في صفوفهم، بيد أنها لن تؤدي إلى تغيير المشهد السياسي أو موازين القوى بشكل جذري بين القوى السياسية أو الطوائف.
ويقول المحلل السياسي عادل محمود لوكالة الصحافة الفرنسية إن هناك “صراعا بين اللوائح الشيعية، للوصول إلى سدة رئاسة الوزراء، لكن ذلك لن يؤثر على صبغة تفرد الشيعة في إدارة العراق”.
بعض التقديرات تشير إلى أن تحالف حيدر العبادي يعد الأوفر حظا نسبيا مقارنة بمنافسيه نوري المالكي وهادي العامري، لكن إذا لم يتمكن أي من التحالفات الشيعية الثلاثة الرئيسة من تحقيق الأغلبية، فسيكون عليها خوض ماراثون من المفاوضات مع بقية الكتل من أجل الوصول لترشيح رئيس الحكومة، وقد يلعب التيار الصدري وتحالف “سائرون” دورا هاما في هذا المجال.
الصراع الرئيسي وإن كان يخاض في “الييت الشيعي”، فإن الدور الكردي يواجه تراجعا جراء الاستفتاء على الاستقلال في إقليم كردستان العراق رغم معارضة بغداد وتحرك حكومة العبادي عسكريا لاستعادة المناطق المتنازع عليها التي سيطر عليها الأكراد خارج منطقتهم المتمتعة بالحكم الذاتي.
ويقول المحلل السياسي عادل محمود إن الدور الكردي سيتراجع بسبب عدة عوامل إستراتيجية، ما سيعزز حالة التشرذم في المشهد السياسي الكردي، مشيرا إلى أن الأكراد يواجهون خلال الانتخابات الحالية خطر خسارة عشرة مقاعد من الـ62 التي يحوزونها في البرلمان الحالي.
ومن المنتظر أن تستثمر المعارضة الكردية المنضوية في تحالف “القائمة الوطنية” حالة الغضب من الأحزاب الكردية التقليدية بعد مفاعيل فشل الاستفتاء والانقسام بين “الحزب الديموقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود برزاني، و”الاتحاد الوطني الكردستاني” بقيادة الراحل جلال طالباني، لتهزم تحالفهما المشترك “السلام الكردستانية”.
أما بالنسبة إلى السنة -الذين يترشحون إلى الانتخابات من خلال أربعة لوائح-، فيرى محللون أن فقدانهم القيادات القوية أو الإطار الحزبي الموحد والمتماسك سيظل يظلل حظوظهم، لكن من المفترض أن يلعبوا دورا مساندا في تشكيل الحكومة.
النفوذ الدولي والإقليمي
ومع أهميتها المحلية في ترتيب أوراق الأحزاب والسلطة وتحالفاتها للسنوات القادمة، فإن تشريعيات العراق تحظى باهتمام إقليمي ودولي كبير، من الولايات المتحدة وإيران، وكذلك روسيا والسعودية وتركيا والأردن،خصوصا في مسألة تشكيل الحكومة ورئيسها وتوجهاتها.
ويقول الكاتب ديفد هيرست في موقع “ميدل إيست آي” إن الانتخابات العراقية ستكون ساحة معركة للقوى الإقليمية المتنافسة من المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا، حيث أصبحت السياسة العراقية مجزأة في اندفاع جنوني لشراء النفوذ، على حد قوله.
وفيما يحظى رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي برضى أميركي وقبول من معظم الأطراف الخارجية الفاعلة، وتراه هذا الأطراف أكثر مرونة في سياساته الداخلية والخارجية وقدرة على التعامل معها، تحبذ إيران وصول المالكي إلى رئاسة الوزراء وحصول تحالفه “ائتلاف دولة القانون” على الأغلبية وكذلك تحالف “الفتح ” بقيادة هادي العامري.
لكن طهران لا تبدي رغم ذلك انحيازا واضحا تجاه المالكي تحسبا لأن تجري الانتخابات على ما لا تشتهي بإخفاق التيارات القريبة منها أو تحقيق الكتل غير المتجانسة معها لاختراقات كبرى.
ورغم حالة التجاذب، يرى مراقبون أن واشنطن وطهران لديهما مصلحة في بقاء الوضع على ما هو عليه بوجود شخصية “معتدلة”، وتعمل واشنطن في ظل وجود شخصية كهذه على مزيد من تعزيز نفوذها وتحقيق التوازن مع إيران مع العراق بإغراءات ذات طايع اقتصادي وأمني وعسكري.
ويقول محلون عراقيون إن المتغير الأكبر في هذه الانتخابات هو دخول السعودية على خط التأثير، من خلال علاقاتها مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وكذلك تقاربها مع رئيس الوزراء حيدر العبادي -كلاهما زار الرياض في الفترة الأخيرة- كما تعمل على مقاربة جديدة لعلاقاتها من خلال الإغراءات الاقتصادية.
ويشير مراقبون إلى أن التنافس بين السعودية وإيران في العراق مؤخرا أدى بالفعل إلى انشقاقات داخل حزبين يغلب عليهما الشيعة هما “حزب الدعوة” الحاكم ، و”المجلس الإسلامي الأعلى”.
ويبقى وضع العراق السياسي مرتبطا بحالة الاستقطاب الإقليمي والدولي، لكن العراقيين ينتظرون استثمار حالة الهدوء العسكري والأمني، غير المسبوق منذ سنوات لحلحلة العديد من الملفات المهمة اقتصاديا وتنمويا وتنفيذ الوعود الكثيرة التي جاءتهم من آلاف المرشحين في الانتخابات.
المصدر : الجزيرة,مواقع إلكترونية