كانت الأشهر القليلة الأخيرة في سورية هي الأحدث في سلسلة من الأشهر المروعة. فبعد ما يقدر بنحو 511.000 وفاة منذ بدء الحرب في العام 2011، أصبحت لدى نظام الرئيس بشار الأسد في الفترة الأخيرة اليد العليا، وهو يمارس أقصى قدر من الضغط على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في كل أنحاء البلد. وكان المدنيون تحت الهجوم، بما في ذلك بالأسلحة الكيميائية، وتم قطع طرق المساعدات الإنسانية. ويشير تزايد التدخل الخارجي -من روسيا، وتركيا، وإسرائيل، والولايات المتحدة، من بين آخرين كثيرين- إلى أن الصراع سيزداد سوءاً على الأغلب.
مع ذلك، هناك جيب واحد في سورية بقي هادئاً نسبياً، على الرغم من الاضطرابات التي تحيط به. كان جنوب غرب سورية -وبشكل خاص محافظة القنيطرة على الجانب السوري من مرتفعات الجولان، والمناطق القريبة منه في الجزء الجنوبي الغربي من محافظة درعا- أقل اقتتالاً إلى حد كبير من المناطق الأخرى. وكانت المعارضة المعتدلة أقوى هنا في القنيطرة والمناطق المحيطة بها، بينما لا تمتلك الجماعات المتطرفة –على الرغم من وجودها هناك- اليد العليا، كما أن الظروف الإنسانية أفضل إلى حد كبير من معظم المناطق الأخرى في سورية. وهذه المنطقة مهمة استراتيجياً أيضاً، باعتبارها المكان الذي تنخرط فيه إيران وإسرائيل في منافسة للسيطرة على الجانب السوري من مرتفعات الجولان، وهي منطقة محورية يريد كل من الطرفين إحكام السيطرة عليها في حال نشب صراع أوسع نطاقاً بينهما.
بالنظر إلى المخاطر التي ينطوي عليها ضمان بقاء محافظة القنيطرة والمنطقة المحيطة بها في درعا خارج سيطرة إيران، ودرجة النجاح الذي تحققه المعارضة المعتدلة في إدارتها مقارنة ببقية سورية، فإن هذه المنطقة تستحق الدراسة لتعقب الدروس التي يمكن استخلاصها منها.
هناك بضعة من العوامل المحتملة التي تجعل هذه المنطقة من سورية فريدة في نوعها. هناك القرب النسبي لإسرائيل، والذي يجعل نظام الأسد أكثر حذراً في التدخل. كما نجح الأردن والولايات المتحدة وروسيا أيضاً في إقامة منطقة تهدئة في المنطقة في تموز (يوليو) الماضي. يضاف إلى ذلك أن القنيطرة والمنطقة المحيطة بها في درعا هي من الأماكن القليلة في سورية؛ حيث ما تزال المعارضة المسلحة المعتدلة تتلقى دعماً خارجياً، خاصة في شكل الرواتب وشحنات الذخيرة الدورية، والتي توفر طبقة إضافية من الأمن ضد العناصر المتطرفة التي تحاول الاستيلاء على السلطة.
لكن هناك عنصراً إضافياً كان حاسماً أيضاً في توفير الاستقرار النسبي هنا: المساعدات المستمرة التي يتم تسليمها من خلال شراكة غير مسبوقة بين إسرائيل والمنظمات الحكومية السورية، بما في ذلك الدواء، والمعدات الطبية، والغذاء، والملابس، والتي تعمل كشريان حياة للسكان المدنيين في هذه المنطقة من البلد وتساعد على تمكين المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني. كما أن هذه الشراكة تتجاوز مسألة المساعدات الإنسانية، حيث تجعل من الأصعب على المنظمات المتطرفة النجاح في تجنيد المواطنين.
حتى بينما تفكر إدارة أوباما جدياً في إلغاء تمويل الاستقرار الذي يمكن أن يجعل من مجتمعات المعارضة أكثر قدرة على المقاومة في جنوب غرب سورية، فقد تعاون الجيش الإسرائيلي مع المنظمات السورية غير الحكومية و”التحالف متعدد الأديان من أجل اللاجئين السوريين” في جهد الإغاثة الإنسانية من خلال “عملية الجار الطيب”، التي سهل التحالف بها إيصال ما فاقت قيمته 94 مليون دولار من الغذاء والدواء والألبسة وغيرها من الضروريات. (إفصاح: أحد كاتبي هذا المقال يعمل مع “التحالف متعدد الأديان من أجل اللاجئين السوريين). وتمر المساعدات عبر الحدود الإسرائيلية-السورية، ويتم توزيعها على الناس في جنوب غرب سورية. وعلى الرغم من أن معظم متلقي هذه المساعدة هم أناس ضعفاء من السكان الأصليين لهذه المنطقة، فإن هناك أيضاً عشرات الآلاف من السوريين المشردين داخلياً من مناطق أخرى من غرب ووسط سورية، والذين يستفيدون من هذه المساعدات.
من الصعب تعقب الأسباب الدقيقة لأي شيء يحدث في منطقة حرب. ومع ذلك، ثمة سبب للاعتقاد بأن المساعدات الإنسانية تسهم في تحقيق الاستقرار الذي نشهده في جنوب غرب سورية. ولنأخذ توزيع المساعدات. إن أي طرف يقوم بتوفير المساعدات التي تنقذ الحياة على الأرض في منطقة حرب إنما يقوم بتعزيز موقفه وسمعته عند السكان. وحسب الروايات التي يتم تناقلها على الأقل، فإن هذه بالضبط هي الدينامية التي نراها تعمل في جنوب غرب سورية. هناك، أصبحت منظمات المجتمع المدني، بدلاً من المنظمات الإرهابية، هي آخر مزود (بل والأول بصراحة) للملاذ بالنسبة للناس اليائسين.
تُحاط منطقة الخدمات هذه في جنوب سورية -خاصة القنيطرة على الجانب السوري من مرتفعات الجولان والمناطق القريبة منها من محافظة درعا- بمناطق يسيطر عليها النظام، مما يجعل من تلك المساعدات الوحيدة التي تمنع السلطة المدنية، ومنظمات المجتمع الدني، وحكم القانون من الانهيار الكامل. وتشكل المجالس المحلية المنتخبة، التي تمثل السكان المحليين للبلديات في المنطقة، والتي تعمل بشكل مستقل عن -وتتنافس مع- الأطراف الأكثر تطرفاً في المعارضة، تشكل قنوات تدفق المساعدات إلى هذه المنطقة من سورية. وسوف يكون البديل عن “عملية الجار الطيب” هو الانهيار السريع لمجتمعات المعارضة، إما لتحكمها الجماعات المتطرفة أو قوات الأسد، والتي تقودها إيران وتشكل رأس الحربة فيها.
أخيراً، توفر المساعدات أحد مظاهر الحياة اليومية، وتزرع كذلك بذور الاكتفاء الذاتي، اللذين سيحتاج السوريون إلى الاحتفاظ بهما إذا كانت المنطقة تريد الحفاظ على السلام بعد أن يعود استقرار أكثر ديمومة إليها في نهاية المطاف. وعلى سبيل المثال، ساعدت عملية “الجار الطيب” في تأسيس وإدامة المستشفيات، والمخابز، وأماكن التخزين، ومزارع العمل. وهي مؤسسات سوف يحتاج الاقتصاد السوري في هذه المنطقة إليها على المديين، القصير والطويل.
من المهم التأكيد أن هذه عملية يقودها السوريون، ولا تديرها إسرائيل، ومع أن إسرائيل توفر الصلة المناطقية لتدفق المساعدات إلى القنيطرة، فإنهم السوريون هم الذين يقومون بعمل كل شيء على الأرض. والشيء الرئيسي في هذه المنطقة من سورية هو التنسيق الوثيق بين السوريين الذين يعملون على الأرض أنفسهم بمجرد أن يتم إيصال المساعدات بأمان من إسرائيل إلى القينطرة والمناطق المحيطة بها. ويعمل السوريون المحليون -في المعارضة المسلحة المعتدلة وقوات الأمن المحلية ومنظمات المجتمع المدني، والمجالس المحلية- يعملون جميعاً معاً بطريقة فعالة نسبياً لضمان أن يتم توزيع المساعدات بكفاءة، وبطريقة لا يجعل الأمور تنتهي بها إلى أيدي العناصر المتطرفة.
ليس القول إن المساعدات الإنسانية حاسمة للاستقرار محلاً للجدل. ويمكن أن يؤدي الفشل في ممارسة السلطة الناعمة، مثل إيصال المساعدات الإنسانية، إلى ترك فجوات سوف تملؤها العناصر المتطرفة في نهاية المطاف. وفي العام 2013، كان جيمس ماتيس، الذي أصبح الآن وزيراً للدفاع، وكان في ذلك الحين جنرالاً أميركياً بارزاً في الشرق الأوسط، قد خلص إلى أن التخفيضات المقترحة في ميزانية المساعدات الخارجية سوف تعني ببساطة “أنني سأحتاج إلى شراء المزيد من الذخيرة، في نهاية المطاف”. وكان محقاً في تقدير أن الفشل في المساعدة سوف يَعرض ببساطة خطر إطالة أمد وكثافة الصراع. ويجب أن تتعلم إدارة الرئيس دونالد ترامب من “عملية الجار الطيب” أن تمويل الاستقرار -والذي يشمل دعم المنظمات مثل “الخوذات البيضاء” التي تدعم المجتمعات المحلية بخدمات الطوارئ- ينبغي أن تكون جزءاً أساسياً وضرورياً من استراتيجية الولايات المتحدة الخاصة بسورية.
في سورية، ليست هناك أي ضمانات بطبيعة الحال. وسوف يتطلب بناء الاستقرار في سورية توفير الموارد للمجتمعات الحالية، والصبر، وإبقاء العين على تحقيق الهدف الاستراتيجي الأكبر المتمثل في جعل المجتمعات السورية أفضل أداء وأكثر مقاومة ضد تسلل المتطرفين. ومع ذلك، ومع كل ما هو على المحك في مناطق الصراع الأخرى في سورية، يبدو واضحاً أن مصالح الولايات المتحدة سوف تُخدم بشكل أفضل إذا اعترفت إدارة ترامب بالدور الذي يستطيع هذا النوع من التمويل أن يلعبه في الحفاظ على الاستقرار الفريد الذي يتمتع به جنوب غرب سورية. وسيكون البديل هو السماح بالانهيار البطيء لمناطق المعارضة، وعودة نظام الأسد، والترسيخ المحتمل لإيران كقوة مهيمنة في جنوب غرب سورية.
شادي مارتيني؛ نيكولاس هيراس
الغد