منذ بداية الأزمة السورية وتركيا تحاول التقريب بين أطرافها، كانت البداية في التقريب بين موقف الرئيس السوري بشار الأسد وفصائل المعارضة السورية، في المرحلة التي كانت الاحتجاجات السلمية هي السائدة في سوريا من شهر مارس 2011 وحتى نهاية ذلك العام تقريبا.
حاولت الحكومة التركية برئاسة رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية داود أوغلو تقديم النصائح لبشار الأسد، لسماع مطالب المعارضة والتفاوض معها على تعديلات دستورية، وتعددية سياسية، وتمثيل سياسي للمعارضة السورية في البرلمان والحكومة السورية، مع بقاء النظام على حاله بيد بشار الأسد، ولكن هذه المرحلة انتهت بالفشل بالنسبة لتركيا، بسبب اتباع الأسد النصائح الإيرانية والروسية، التي اختارت قمع المعارضة بالقوة العسكرية والبطش الشديد، فكانت النتيجة بعد ست سنوات، مقتل أكثر من مليون مواطن سوري، وتشريد أكثر من نصف الشعب السوري خارج سوريا وداخلها، منهم اكثر من ثلاثة ملايين سوري في تركيا وحدها، والنتيجة الأخطر هي تدمير المدن الحضارية السورية، وتحويل سوريا إلى أرض مستباحة للصراع الدولي بين الدول الكبرى عالميا وإقليميا.
لقد لحق التدمير معظم المدن السورية في دمشق وحلب وحمص وحماة وغيرها، وهي من أكبر المدن الحضارية العربية والإسلامية التاريخية، على أيدي الجيش الروسي والجيش الإيراني، برضا وسكوت الأسد وجيشه، بل مشاركتهم بمجازرهم الكيماوية والبراميل المتفجرة، وأصبحت هذه المدن أطلالاً مدمرة لا حياة فيها، فكانت حربا انتقامية وإبادة بشرية عنصرية، وكأن الهدف إبادة جزء من الشعب السوري، ليبقى الجزء الآخر. الأول مصيره القتل والتدمير والتشريد، والثاني مصيره الخنوع والخضوع، ليبقى تحت حكم الأسرة الأسدية العلوية الطائفية، مع قبولهم في الوقت نفسه بالهيمنة الروسية والإيرانية على سوريا ومستقبلها، ومن يريد العودة من المهجرين فبشرط التنازل عن الحقوق السياسية، والعيش كمواطنين من الدرجة الثانية. ويظل الشعب السوري، سواء كان من المعارضة أو من المحايدين أمام خيار واحد وهو العيش باستسلام لنظام أسرة الأسد، وما يقرره الاستعمار الروسي له.
أما إيران، فقد أدت ما تم إحضارها لأجله، وهي اليوم أمام ضغوط داخلية وخارجية للرحيل، فالضغوط الإسرائيلية والأمريكية تعمل لإخراجه من سوريا، وهذا ما توافق عليه روسيا، بل هو من لوازم انفراد وإنجاح الاستعمار الروسي لسوريا، الذي تكفل بمنع نجاح الثورة السورية أولاً، ومنع إقامة دولة مدنية ديمقراطية في سوريا ثانياً، وتكفل بحماية الأمن الإسرائيلي ثالثاً، واستعمار سوريا من روسيا لعقود مقبلة، سواء في كسب المشاريع الاقتصادية لصالحها، أو التواجد العسكري على سواحلها الدافئة.
الرحيل الإيراني، سيبدأ من الجنوب السوري، حيث التفاوض اليوم على رحيل الايرانيين وتوابعهم من هذه المنطقة، وقد تكفل الروس بذلك لوزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان قبل يومين، ونتنياهو يشترط رحيل المليشيات الإيرانية من كل سوريا، وإلا فسيتم تدميرها في سوريا، ولن تستطيع إيران أن تحارب اسرائيل لا في سوريا ولا في غيرها، والاشتباكات السابقة بينهما دليل على عجز إيران وحزب الله اللبناني عن خوض معركة عسكرية حقيقية مع اسرائيل.
أما الرؤية الاستراتيجية الأمريكية لسوريا، فقد نجحت في إبقاء الحرب مشتعلة لسبع سنوات أولاً، وهي تقبل أن يكون دورها التاريخي، هو المساهمة بتدمير المدن السورية بأحدث طائراتها الحربية (أف 18) وغيرها، بحجة محاربة «داعش»، فأمريكا لم تسمح لإيران وروسيا بتدمير المدن السورية وحدهما، بل تريد حصتها من القتل والتدمير، كشهادة تاريخية لخوضها حربا على السوريين كما خاضتها على العراقيين، فهذه حرب تاريخية للشرق والغرب لتدمير بلاد العرب والمسلمين، فلم تفوت أمريكا هذه الفرصة للمساهمة والمشاركة فيها، وقامت بتسليم المدن السورية العديدة في تل أبيض ومنبج والرقة وغيرها، بعد طرد اهلها منها إلى قوات سوريا الديمقراطية، وهي القوات التي اتفقت معها أمريكا لخدمة مصالحها فيها، وهذه القوات كانت تعرف باسم قوات حماية سوريا، وهي ميليشيات «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» السوري نفسها، والحزب بدوره جناح حزب العمال الكردستاني في تركيا، أي أن أمريكا تراهن في سوريا على قوات قسد وحزب العمال الكردستاني لتحقيق مصالحها، ومن أهمها تقسيم سوريا داخليا، وإن بقيت دولة واحدة خارجياً إلى حين، وهو ما عملته أمريكا في العراق بالضبط، ولكن بدون ان تضطر لاحتلال سوريا عسكريا، كما احتلت العراق من قبل، وتكبدت خلالها الكثير من الخسائر البشرية والمالية.
هذه صورة الصراعات القائمة في سوريا الآن، بين روسيا وإيران وإسرائيل وامريكا، وليست بين السوريين أنفسهم، وكل طرف من الأطراف الدولية يراهن على جزء من الشعب السوري، ليكون جنودا مرتزقة له، وتمسك روسيا ببشار الأسد ضروري لها لحين إيجاد البديل، الذي يحفظ حقوق الاستعمار الروسي لسوريا لعقود مقبلة أيضاً.
والتواجد الإيراني هو رهن التوافق الروسي الإسرائيلي والأمريكي، وعندما تعلن أمريكا انها سوف تنسحب من سوريا، فإنما بقصد ترك نفوذها وأسلحتها وقواعدها العسكرية التي بنتها في سوريا بأيدي قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، وبالتالي الحفاظ على مشروع تقسيمها لسوريا في المستقبل، فالتقسيم هو الذي يحفظ نفوذ أمريكا ومصالحها في مستقبل سوريا، ولذلك اعتبر بشار الأسد في مقابلة مع التلفزيون الروسي قبل يومين أن المشكلة الكبرى التي يواجهها هي مع وجود قوات سوريا الديمقراطية، التي تعمل لصالح امريكا، فقوات قسد هي التي تحول دون سيطرته على باقي الأراضي السورية، وقال إنه يحاول التعامل معها عن طريق التفاوض للانصياع إلى حكمه أولاً، وإلا فإن الطريقة الثانية هي المواجهة بالقوة، وهو ما حذرته منه أمريكا مرارا، بل استعملت قوتها العسكرية بضرب جيش الأسد قبل شهرين، عندما حاول الاقتراب من قاعدة التنف العسكرية شرق سوريا.
وكما يزداد الحديث عن منطقة التصعيد جنوب سوريا، وطرد النفوذ الإيراني منها، والتي تحكمها اتفاقية خفض التصعيد بين الاردن واسرائيل وامريكا وروسيا، كذلك يزداد الحديث عن التفاهم التركي الأمريكي حول منبج، فامريكا لا تريد التصادم مع تركيا، وتحاول بكل دبلوماسيتها السياسية والعسكرية إقناع تركيا بتقبل وجهة النظر الأمريكية، القائمة على منح الشمال السوري وشرقي الفرات إلى قوات قسد، وإلى قوات عربية يتم إعدادها وتدريبها عسكريا، ودعمها ماليا لتولي شؤون المدن والقرى العربية، بينما تسيطر قوات قسد على المدن والقرى الكردية، وإجراء تفاهمات بينهما لمنع عودة جيش بشار إليها، وهو ما تخشاه تركيا، لأنها إن ضمنت عدم التأثر السلبي من القوات العربية على أمنها القومي، فهي لا تأمن بحال مستقبل أمنها القومي من سيطرة قوات قسد إطلاقاً، وهذه نقطة خلاف كبرى بين تركيا وأمريكا، وفي الوقت نفسه فإن الارجح ألا تطمئن الحكومة التركية للقوات العربية في حال كانت هذه القوات تحت رئاسة قوات قسد نفسها أيضاً.
كل ذلك يعني أن مستقبل سوريا لا يزال شائكا في حله السياسي، كما هو شائك في حله العسكري، وإذا أخذ الحل العسكري سبع سنوات بدون جدوى، فإن الحل السياسي سيكون أكثر مرارة وصعوبة وأطول زمنا، لأن الضغوط العسكرية والاقتصادية قد تكسر الصمود الإيراني في مدة زمنية قصيرة، ولكن كسر الصمود الروسي في سوريا سيحتاج إلى مدة زمنية أطول، لأن بوتين لن يستسلم بسهولة في سوريا بعد الخسائر الكبرى التي مني بها، وخسائره العسكرية ستكون في المستقبل أكبر حتى الانسحاب الكلي. أما تركيا فإن وجودها في سوريا مؤقت ومحدود بنفسه، وهو قابل للانتقال إلى الشعب السوري ممثلا بالجيش السوري الحر، وتركيا تدعم تطلعات الشعب السوري الطامح لفرض إرادته الوطنية على أراضيه المحررة من الاحتلال الخارجي، أو الاستبداد الداخلي، والمفاوضات الحالية مع أمريكا حول منبج لا بد أن تحقق شروط الأمن القومي التركي أولاً، وان تكون المدن والقرى السورية العربية بحكومة بإدارات محلية من سكانها الأصليين ثانيا، وأن يكون مستقبل سوريا السياسي والدستوري بأيدي الشعب السوري وحده، وبدون وصاية خارجية ثالثا، وعدم إبقاء أسباب التوتر والصراع القومي او الطائفي لصالح الصراع الدولي في سوريا.
محمد زاهد جول
القدس العربي