خلال الأسبوع الماضي، ردت إيران على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي من خلال التحذير من أنها ستكثّف بشكل ملحوظ جهودها لتخصيب اليورانيوم ما لم تستجب الأطراف الأخرى – أوروبا كما يُفترض – لمطالباتها بالتعويض. وقد أوعز المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إلى “منظمة الطاقة الذرية الإيرانية“ بالبدء باستعدادات فورية لإنشاء 190 ألف وحدة عمل منفصلة، وهي وحدات معيارية لقياس إنتاج أجهزة الطرد المركزي من اليورانيوم. وعلى الرغم من تأكيده على أن هذه الخطوة لا تزال ضمن القيود المفروضة بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة»، إلا أن هذا العدد يكاد يكون 40 مرة أكبر من قدرة إيران الحالية على التخصيب. وإذا نفذ النظام الإيراني تهديده، سيشكل ذلك خطوةً أخرى في استراتيجية طهران للوصول إلى العتبة النووية – القائمة على تطوير المواد الضرورية للأسلحة النووية بقدر الإمكان دون إنتاج الأسلحة المذكورة فعلياً أو بطريقة أخرى انتهاك سافر لنصوص الاتفاقيات الدولية.
وبالعودة إلى عام 2006، في ذروة الأزمة النووية الأولى بين إيران والغرب، حلل نائب وزير الخارجية الإيراني محسن أمين زاده استراتيجية طهران النووية الفاشلة في مقال افتتاحي سلط فيه الضوء على سبل المضي قدماً. وذكر أنه تعين على إيران الاختيار بين نموذجين مختلفين لمستقبلها النووي: اليابان أو كوريا الشمالية. ومن خلال التوقيع على «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2015، بدا أن طهران اختارت نموذج طوكيو لتصبح دولة على العتبة النووية على المدى الطويل. غير أن القرارات التي اتخذها الرئيس ترامب مؤخراً بالانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» ومتابعة المفاوضات النووية مع بيونغ يانغ قد تدفع بالقادة الإيرانيين إلى إعادة النظر في خيارهم.
نموذج اليابان: تنازلات قصيرة الأمد للحفاظ على موقعها على العتبة النووية
خلال العقدين الماضيين نظر مختلف المسؤولين الإيرانيين بحسد إلى مكانة اليابان على المستوى النووي. فمن وجهة نظرهم، نجحت طوكيو في اكتساب ثقة المجتمع الدولي وبناء دورة وقود نووي على الرغم من ماضيها العدائي. ومن خلال قيامها بذلك، أصبحت دولة على عتبة نووية قادرة بسرعة على إنتاج أسلحة نووية إذا ما رغبت في ذلك.
وكما وصفها أمين زاده في عام 2006، كان وضع اليابان على الصعيد النووي بعد الحرب العالمية الثانية مماثلاً لوضع إيران الحالي، لكن هذه الجزيرة بنت منذ ذلك الحين 55 محطة للطاقة الذرية. وفي عام 2009، أكد وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي أن اليابان “أمضت سنوات عديدة في بناء الثقة بعملها النووي… من دون تعليق أنشطتها [النووية]”. وقد نقل سلفه، كمال خرازي، الفكرة نفسها في عام 2005، قائلاً “يمكن لمحطات الطاقة النووية السلمية في اليابان أن تمثل نموذجاً لإيران”.
ومع ذلك، تغفل مثل هذه التصريحات بشكل ملائم الثمن الباهظ الذي دفعته طوكيو لكسب الثقة الدولية وجني الفوائد النووية. أولاً، اضطرت اليابان إلى إحداث تغيير جذري في سياستها الخارجية بعد الحرب، لتصبح قوةً في شرق آسيا بحكم الأمر الواقع، وحُرّمت دستورياً من المشاركة المستقبلية في النزاعات في الخارج. وفي المقابل، تواصل إيران تصدير ثورتها الإسلامية وزعزعة استقرار الحكومات في الشرق الأوسط وما يتخطاه.
ثانياً، أدت صدْمَتَيْ هيروشيما وناغازاكي إلى دفع اليابان إلى التعهد بعدم السعي قط إلى امتلاك أسلحة نووية – وفي الواقع، أصبحت من أبرز المنادين بنزع السلاح النووي. ولكن القادة الإيرانيين أمروا بتنفيذ أعمال التسليح [النووي] بشكل سري خلال السنوات الماضية، وحذر أحدهم على الأقل (الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني) في خطاب علني من تدمير إسرائيل المحتمل بالأسلحة النووية – وكل ذلك رغم صدور محظورات دينية ضد أسلحة الدمار الشامل وإبرام “معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية”.
ثالثاً، كما أشار أمين زاده في مقالته، تعاونت طوكيو مع “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” بحسن نية على مر السنين، وأزالت أي خوف من أنها قد تسعى للحصول على أسلحة نووية. وحاول المسؤولون الإيرانيون جعل المجتمع الدولي يؤمن بأنهم أيضاً يتعاونون بشكل كامل، لكن تقارير “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” من الفترة 2011-2015 توضح بجلاء سعي طهران غير المشروع إلى امتلاك سلاح نووي. وفي الآونة الأخيرة، كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن إيران حافظت بشكل جاد على أرشيف كبير من بيانات التسلح [النووي لاستعمالها] في المستقبل، من خلال إخفائها عن مفتشي “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” لسنوات بعد الموافقة على «خطة العمل الشاملة المشتركة».
وبالفعل، كان قرار إيران بالتفاوض بشأن الاتفاق النووي وقبول القيود المؤقتة على برنامجها محاولةً واضحة لتحقيق المكاسب نفسها تماماً كاليابان، ولكن دون تبنّي أهداف طوكيو السلمية أو نفورها من أسلحة الدمار الشامل. وفي مقابلة تلفزيونية أجريت عام 2014، دافع مدير “منظمة الطاقة الذرية الإيرانية“ علي أكبر صالحي عن الاتفاقية الإطارية التي سبقت «خطة العمل الشاملة المشتركة»، مدعياً أن برنامج إيران “سيكون مماثلاً لذلك [الذي اعتمدته] اليابان” بعد الاتفاق، وأن طهران سوف “تتمتع عندئذ بحقوقها وفقاً لـ «معاهدة منع الانتشار النووي»”. لكن في حين سعت اليابان إلى امتلاك الطاقة النووية كهدف، إلّا أن إيران أظهرت مراراً وتكراراً أنها تعتبر هذه القدرات مجرد وسيلة لتحقيق قوة الردع النووية.
نموذج كوريا الشمالية: احتواء الردع النووي تحت الضغط
على الرغم من أن العديد من من المحافظين الإيرانيين مُعجبين على الأرجح بقدرة نظام كيم على إنتاج أسلحة نووية والحفاظ في الوقت نفسه على السلطة السياسية، إلّا أنهم حذرون دون شك من الثمن الذي دفعته بيونغ يانغ. فكوريا الشمالية هي إحدى أفقر المجتمعات وأكثرها استبداداً في العالم. ولا يتطلع المسؤولون الإيرانيون إلى التمثّل بوضعها الاقتصادي، ونظراً إلى فترات الاضطرابات الدورية التي تشهدها الجمهورية الإسلامية منذ ثورة عام 1979، قد يطرح اتباع المثال الكوري الشمالي خطراً كبيراً على الدعم الشعبي للمرشد الأعلى.
ومع ذلك، فقد حث المتشددون البارزون النظام الإيراني مراراً على النظر في هذه الفكرة بالذات. وفي أعقاب التجربة النووية التي أجرتها كوريا الشمالية في عام 2006، نشرت صحيفة “كيهان” الإيرانية المحافظة للغاية افتتاحيةً ادّعت فيها أن قدرات بيونغ يانغ هي “نتيجة المقاومة في وجه… ضغوط كبيرة” من الولايات المتحدة. وخلصت المقالة إلى أنه إذا التزم أي بلد إلتزاماً راسخاً للحصول على أسلحة نووية، “سينجح في النهاية … حتى إذا عارض العالم كله”. كما أشادت صحف أخرى تابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني بتحدي كوريا الشمالية لواشنطن، بينما زعم مركز للبحوث الدبلوماسية تابع لوزارة الخارجية في عام 2009 أن الدروس المستخلصة من بيونغ يانغ يمكن تطبيقها في الشرق الأوسط.
لكن رغم ذلك، قررت طهران كبح نفسها، على افتراض أن السبب يعزى إلى أن استراتيجيتها النووية نابعة من هدف أساسي يتمثل بالحفاظ على النظام مهما كان الثمن. ورغم الإشارة إلى المزايا الاستراتيجية لكوريا الشمالية (أي الانسحاب من “معاهدة حظر الانتشار النووي” وإنتاج سلاح لتحقيق الردع النووي)، اتخذت إيران مساراً آخر وهو اعتماد أجزاء من نموذج اليابان من خلال تطوير برنامج التخصيب والانخراط مع الغرب في الوقت نفسه، وموافقتها في وقت لاحق على «خطة العمل الشاملة المشتركة»، للتخفيف من العقوبات الاقتصادية الصارمة.
عودة معضلة إيران الآسيوية
يعتبر قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» وإعادة فرض العقوبات ضربةً كبيرة للمناصرين الإيرانيين للنموذج الياباني. فالرئيس روحاني يرزخ تحت وطأة ضغوط كبيرة يمارسها خامنئي وغيره من المحافظين الذين يلقون اللوم عليه بسبب دوره في السعي إلى التوصل إلى الاتفاق المذكور. وإذا عَجَز عن توفير الحلول للوضع الاقتصادي والسياسي الناتج في إيران، فقد يضغط بعض المتشددين على الحكومة لتنفيذ التحذيرات التي أصدرتها في الأشهر الأخيرة – أي الانسحاب من “معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية” إذا ما انسحبت واشنطن من «خطة العمل الشاملة المشتركة».
وفي الوقت نفسه، قرر الرئيس ترامب الاجتماع مع كيم جونغ أون (في الثاني عشر من حزيران/يونيو، وفقاً لما أُعلن حتى كتابة هذه السطور)، الأمر الذي أثار احتمال توصل الولايات المتحدة إلى اتفاق نووي مع بيونغ يانغ. ومثل هذه الاحتمالات قد تقنع طهران بأن واشنطن مستعدة أخيراً للموافقة على حكم النظام الكوري الشمالي، ومن المحتمل أن تدفع بعض المحافظين إلى الادعاء بأن السبيل الوحيد لمقاومة الغرب هو الحصول على أسلحة نووية والتفاوض من موقع قوة.
وبالتالي، ستكون الأشهر القليلة القادمة مهمة لمستقبل إيران، إذ سيتحتم على قادتها حسم موقفهم بين اتخاذ إجراءات قاسية لكبح الضغط الأمريكي أو لعب دور الضحية والاكتفاء باتخاذ إجراءات محدودة. وستشكل الديناميكات بين إيران وواشنطن وأوروبا – لاسيما احتمال الحصول على تعويضات اقتصادية من هذه الأخيرة – العامل الرئيسي في تحديد معالم هذا القرار. غير أن الأحداث الجارية في شرق آسيا قد تؤثر أيضاً على سلوك النظام الإيراني. وإذا أسفرت المفاوضات بين ترامب وكيم عن التوصل إلى اتفاق، ليس هناك شك بأن طهران ستدقق فيه عن كثب لتحديد ما إذا كان اعتماد استراتجية بيونغ يانغ يستحق المتابعة. وإذا قررت إيران أن تكون عنيدة، فقد تنتهج استراتيجية حافة الهاوية وتنسحب سراً من “معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية” أملاً في إعادة التفاوض حول شروطها مع المجتمع الدولي.