ذلك هو العالم ثنائي القطبية الذي شهد اندلاع الثورات القومية الديمقراطية، والتحررية الوطنية في بلدان عديدة في العالم الثالث، ومنها مصر، فعلى نقيض هزيمة الجيوش العربية والأنظمة الإقطاعية والبورجوازية، في الحرب العربية – الصهيونية لعام 1948، دشنت ثورة يوليو العام 1952، بقيادة جمال عبد الناصر، عهدًا جديدًا من الثورة السياسية التي استعاد فيها الشعب المصري حقه في حكم نفسه، والتخلص من الحكم الملكي التابع للغرب، وثورة اجتماعية تناضل فيها الطبقات الفقيرة، حتى التوصل إلى تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الجذرية.
هدف شكل التطور الرأسمالي الذي حققه المشروع الناصري إلى إنجاز استراتيجية، “القومية التنموية”، من خلال تقييد نفوذ البرجوازية الكبيرة على الفور أو بالتدرّج، ومن ثم تأميم
ملكيتها، وكذلك تأميم ملكية الإقطاعيين وتأميم البنوك التجارية، وعمل على التخلص من التحالفات القديمة التي أقامها الاستعمار المباشر، أو الكولونيالية المسيطرة بطريقة غير مباشرة، والمتمثلة في تحالف كبار الملاكين العقاريين، والبورجوازية الكومبرادورية القديمة، والتجار السماسرة، وعبر بلورة خط التنمية الصناعية الوطنية المستقلة، المعتمدة على العنصرة والعدل الاجتماعي، والتي شكلت قاعدة صناعية مستقلة لا يرقى إليها شك.
وإذا كان القطاع العام، أو قطاع الدولة الذي أوجدته الفئة المهيمنة من الطبقة الوسطى التي تمتلك بالفعل سلطة الدولة، قد مثل “صرح الصمود” الاقتصادي والسياسي في مصر، وفي عدد من الأقطار العربية في مرحلة الستينيات وحتى نهاية السبعينيات، فإنّ استراتيجية “القومية التنموية” التي اتبعها المشروع الناصري كانت أميل، في عمومها، إلى الطابع الفني منها إلى الطابع السياسي الاجتماعي. وهكذا تم استبعاد مفاهيم من مثل “الإيديولوجية والطبقات، والأحزاب”، وكانت برامج التنمية (على قيمتها) مفروضة من أعلى كما كانت السياسات “الاشتراكية” تطبق، في معظم الأحيان، من دون اشتراكيين. وهكذا كان على القطاع العام والخطة القومية الشاملة أن يعملا من دون تدعيم من إيديولوجيا سياسية متبلورة أو حزب سياسي نشط فعال.
كما أفسحت التطورات المهمة المعروفة التي شهدتها ثورة 23 يوليو على الصعيد القومي، في المجال، لمصر الناصرية قيادة النظام الإقليمي العربي الذي أصبح قوة فاعلة ومشاركة في إطار التأثير المتبادل مع فواعل النظام العالمي ثنائي القطبية، فضلا عن أنها شكلت نقطة تحول رئيسية في التاريخ الحديث للنظام الإقليمي العربي. وبالنظر إلى دوره البارز متغيرا فاعلا في هذا النظام العالمي، بدرجات متفاوتة، وعبر المراحل الممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية السبعينيات.
وكانت مرتكزات سياسة النظام الإقليمي العربي هذه، هي، نصرة حركة القومية الصاعدة بزعامة عبد الناصر، والأحزاب القومية العربية الأخرى، في إطار المجابهة مع القوى الاستعمارية الغربية، والكيان الصهيوني، وإفساح المجال لبقية البلدان العربية لتطوير التعاون الاقتصادي والعسكري مع دول الكتلة الشرقية، ومقاومة سياسة الانخراط في الأحلاف العسكرية الاستعمارية الغربية التي أحدثتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، فقد شق هذا النظام الإقليمي العربي في انتقاله من حالة التلمس العفوي والرومانسية الثورية إلى مرحلة الواقعية الثورية طريقه في تضاريس السياسة الدولية الوعرة، من دون أن يستسلم للضغوط التي كانت تمارسها عليه الدول الإمبريالية الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة، في خضم عصر الاستقطاب الثنائي والحرب الباردة، ووعى، في الوقت عينه، حقائق جغرافية سياسية لموقعه، وضرورات وحدة الصف العربي على الصعيد السياسي الشعبي، باعتبار أن مقومات إيجاد القوة لا بد أن تكون بفعل الجماهير لا بغيرها، من أجل تحقيق الاستقلال القومي وتعزيزه.
لكن طريق الارتقاء الصعب هذا الذي جعل من مصر رأس الحربة لصراع العالم الثالث قد ضرب في حرب يونيو/ حزيران 1967 التي ألحقت هزيمة نكراء بالنظام الإقليمي العربي، في الوقت الذي بدا فيه هذا النظام بزعامة عبد الناصر، وبالتحالف مع بقية الأنظمة العربية الوطنية، ينضج على صعيد ربط الاشتراكية بخيار التنمية القومية المستقلة للعرب، واستعادة حق التصرف بالثروات الطبيعية العربية، لمصلحة إخراج الوطن العربي من التأخر، وزجه على طريق التقدم الزراعي والصناعي، وبالتالي ينضج على صعيد امتلاك الوعي التاريخي المطابق.
وبين هزيمة حزيران، وبالتالي نهاية مرحلة التجربة الناصرية وما فرضته من عملية انتقال من التحرير إلى التسوية، والقفز من القضية إلى نقيضها، وكما يقول محمد عابد الجابري، في تحليله القفزات اللامعقولة اللاتاريخية في الخطاب القومي الناصري: “إن التلازم الضروري” الذي يقيمه الخطاب القومي بين “الوحدة والاشتراكية” من جهة و”تحرير فلسطين من جهة أخرى، يسمح، بل يفرض، عند أقل توتر هذا النوع من الانتقال من القضية إلى عكسها من دون الشعور بأدنى تناقض، وبين بروز السعودية نقطة استقطاب للإيديولوجيا الدينية المحافظة المتناقضة جذريًا مع القومية، والوحدة العربية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية. وبالتالي بروزها قوة قائدة للخط المحافظ في النظام الإقليمي العربي، تساوت برامج الحركة القومية العربية مع مواقف اليمين العربي المحافظ الذي أصبح ينتهج سياسة هجومية، مستقويًا في ذلك بالتأييد القوي من الولايات المتحدة الأميركية، على أرضية خط التسوية. وكانت النتائج السلبية المتساقطة عن هذا الانتقال تتمثل في إعادة ترتيب توازنات القوى في المنطقة، وبالذات في
العلاقة بين مصر والسعودية، وما يترتب على ذلك من آثار متعدّدة على النظام العربي.
وبما أن الخطاب القومي العربي قائم على الممكنات الذهنية، فقد عجز عن أن يتحول إلى إيديولوجيا علمية ثورية، وأن يطرح مشروعًا سياسيًا، قوميًا، ديمقراطيًا، يكون نتاجًا للتطور التاريخي العربي، ومستجيبًا للمنعطفات التي يفرزها هذا التطور، ومعطيًا أجوبة عقلانية وواقعية وعالمية الآفاق، للحاجات والتناقضات والتطلعات التي تخلقها حركة التاريخ عينه. وبالتالي، مُحَدِّدًا بدقة للقوى الاجتماعية الثورية وإيجاد نموذج لمجتمع عربي مدني متحرّر ومستقل، في إطار عملية التفاعل مع الجدلية التاريخية الموضوعية، وقاد هذا العجز إلى تعميق أزمة الوضع العربي، أفرادًا وجماعات وطبقات وأحزابًا، بسبب انهيار الحركة القومية التقليدية والرومانسية العربية، الناجم عن تأخر الوعي الإيديولوجي السياسي لهذه الحركة، وعدم تكون حركة قومية ديمقراطية حديثة وعقلانية.
إذًا، تمثلت التغيرات الخطيرة التي حصلت في ظل تراجعات الحركة الناصرية في سيطرة مفاهيم النقائض الإيديولوجية للوحدة والاشتراكية والتحرير التي كانت تشكل الطاقة الثورية للخطاب القومي العربي المعاصر، لكي تُهَيْمِنَ إيديولوجيا التسوية، وتَحُلَ مَحَلَ شعارالتحرير، من خلال قبول عبد الناصر مشاريع التسوية المطروحة، وخصوصا مشروع روجرز، وبالتالي قبوله خط التسوية على الصعيد الدولي وقبوله سياسة التضامن العربي مع الأنظمة العربية الموالية للغرب، ووقفه الحرب الإيديولوجية والسياسية ضدها، وفي مقدمتها العربية السعودية، حين قررالانسحاب المصري من اليمن، حيث كان الوجود المصري آنذاك متصادمًا مع السعوديين، ولكن عبر وكالة اليمنيين. وبعد ذلك، ليكون ورثة المرحلة التاريخية الآفلة مرحلة الملحمة الناصرية والحلم اليساري الرومانسي سوى صورة كاريكاتورية باهتة في غالب الأحيان للأبطال الذين رحلوا.