وانتقد زعماء المعارضة الرئيس ماكرون، لأنه لم يفصل حارسه فوراً، والتزم الصمت إزاء ما جرى، ووصف بعضهم عهد ماكرون بأنه سلطوي، معتبرين أنه كان يجب إحالة الواقعة إلى السلطات القضائية فوراً. ومن المفترض أن يتعرّض الرئيس ماكرون للتحقيق بالحادثة، لكن الجدل يدور حول ما إذا كان سيقف أمام القضاء أم أمام مجلس النواب، باعتبار أن الدستور يحمي الرئيس من المثول أمام أي سلطة إدارية، ولكن ليس أمام ممثلي الشعب.
لم أتوقف عند هذه الحادثة، لأنني أريد أن أقارن سلوك الطبقة السياسية الفرنسية، إزاء انتهاك أحد عناصر أمنها لحقوق المواطن بالتظاهر، بسلوك النخب الحاكمة في البلاد العربية، وفي مقدمة قائمتها سلوك الطبقة/ العصابة المتحكّمة بالدولة السورية، والتي يطلق عليها مجازا، وعلى وسائل ومناهج عملها في القمع المعمم والخارج عن أي حدود قانونية أو سياسية أو أخلاقية، اسم النظام السوري، فقد أصبح من البديهي أن النظام الذي يعتمد، في بقائه، على ترويع الناس وشل قدرتهم على التفكير، وليس على النقد فحسب، لا يرى في عناصر الأمن حماة للقانون، كما هو الحال في الدول المتمدّنة، حتى غير الديمقراطية، وإنما حماة للنظام وأصحابه، في أغلب الأحيان، مع استسهال خرق القانون الذي وضعته الطبقة الحاكمة نفسها. فليس هناك وسيلة أفضل للردع، وإشعار الفرد بأنه عارٍ من أي حماية، ومكشوف لأجهزة
السلطة، ولا عاصم له منها، سوى ممارسة الخرق اليومي والعلني أمامه للقانون. أما القوانين المحترمة بالفعل فهي التي أصدرها الرئيس لحماية عناصر أمنه من أي مساءلةٍ أو محاسبةٍ قانونية، وفي جميع المستويات. ولأن رجل الأمن الذي يعرف أن مهمته تتمثل في ترويع الفرد العادي، وحرمانه من الأمن، حتى يضمن أمن أسياده، يعلم أنه محميٌّ من أي ملاحقةٍ قانونية، مهما ارتكب من جرائم، ولأن الجريمة التي ترتكبها أجهزة الأمن جزء من عدة الإخضاع والاحتفاظ بالسيطرة، أصبحت استباحة حقوق الأفراد في سورية رياضةً يوميةً أكثر منها وظيفة سياسية وأمنية، ومورد رزق بإتاحتها التسلط على حقوق الآخرين، وجني ثمار السلطة بالوكالة، وباختلاق الأكاذيب على الناس وتلفيق التهم، إظهارا للحماسة في خدمة النظام، والحصول على ترقياتٍ في وظيفةٍ محور نشاطها الإبداع في استخدام العنف والتجرؤ على القانون، والتفنن في إعدام إنسانية الفرد، وهدر بدم بارد ومن دون رحمة أو شفقة. ومع مرور الوقت، تحول هؤلاء جميعا، بحكم المهنة والوظيفة والرسالة التي أنيطت بهم، إلى جماعاتٍ من الساديين الذين يتلذّذون بإنزال العقاب والأذى والدمار بحياة المواطن النعجة المحروم من أي حماية أو اعتبار، وبنهبه وتحقيره وإذلاله، سواء فعل ما يسيء إلى النظام أو لم يفعل، فكل شيء مباح، ما دام هدف رجل الأمن هو عمل كل ما يستطيع من أجل تعميق شعور الأفراد بأنه لا شيء يحميهم من بطش جلاوزة النظام، سوى التشبث بالنظام ومدح رئيسه ليل نهار والثناء عليه، كائنا من كان، ومهما فعل وانتهك من حقوق وكرامات.
غنيٌّ عن القول أن هدفي من هذه المقارنة بين سلوك رجل السياسة وأخلاقياته في حكم جمهوري ديمقراطي ورجل حرب أو زعيم عصابة كبرى اختطفت الدولة، وأصبحت تتحكّم بها، وتستغلها لنهب مجتمع كامل وتحويله إلى عبيدٍ يعملون في خدمتها، ولا يهمها لا بناء دولة ولا أمة ولا قانون، بمقدار ما يهمها الحصول على الخنوع الكامل لمواطنيها والاطمئنان إلى ولائهم المطلق والدائم، وسلبهم كل ما يملكون من حقوق وكرامة وإنسانية، بل ولا مقارنة سلوك رجال حكمها برجال حكم سلطات احتلالٍ تدرك لا شرعية احتلالها، وتسعى إلى التغطية عليه، باحترام بعض المظاهر القانونية الشكلية، وربما بتقديم بعض الخدمات للشعوب المخضعة. مثل هذه المقارنة لا معنى لها.
ما أردت أن أشير إليه هو المقارنة التي لا يمكن للمرء أن يتجنب إقامتها بين سلوك رجل السياسة الجمهوري والديمقراطي نفسه تجاه مواطني الحمهورية وسلوكه تجاه مواطني الشعوب المنكوبة الأخرى، أي بين هذا الاحترام الدقيق والمتزايد للقانون، ولحقوق الناس هنا، والاستهتار المطلق والشائن الذي يظهره رجل السياسة ذاته هناك، إزاء معاناة الشعوب التي تخضع لحكم التشبيح والخرق اللامحدود للقانون. وهذا التباين الفاضح هو الذي سمح لحكوماتٍ غربيةٍ، لا شك في ديمقراطيتها وتمدنها، أن تغضّ النظر عن الانتهاكات غير المسبوقة لحقوق الإنسان في بلدانٍ كثيرة، من دون أن يظهر عليها أي تأثر أو قلق على احترام القانون الإنساني، حتى أنها لم تر بأسا ولا مانعا اليوم من التسليم بأن يستمر الأسد الذي لم يترك انتهاكا ممكنا للقانون وحقوق الإنسان لم يقم به، واعتبار بقائه هو المخرج الوحيد لحرب الإبادة الجماعية التي دبرها وقادها مع حلفائه الإيرانيين والروس ضد الشعب الروسي. وهي الحرب
التي كان تحدّي الغرب وتمريغ سمعته بالوحل أحد أكبر أهدافها. ما الذي يجعل رجل السياسة نفسه يشعر بالغيرة على الحق هنا، ولا يتردد في مساءلة رئيس الجمهورية عن انتهاك حارسه حق مواطن في التظاهر من دون تهديد، ولا يرى في استخدام الأسلحة الكيميائية وبراميل الإبادة الجماعية وتدمير المدن على رؤوس ساكنيها، لإكراههم على الهجرة والنزوع عن أرضهم، ما يستدعي الإدانة والتبرؤ من الفاعل، والسعي إلى حرمانه من قطف ثمار عمله الوحشي؟ كيف يبرّر لنفسه التسامح مع حقوق شعوبٍ كاملة، ولا يتردّد في إعادة تأهيل حكامها والتعامل معهم، وهم يحكمون بالعنف العاري، خارج إطار السياسة والقانون والأخلاق. أخيرا كيف يمكن لشريعة الغاب أن تكون قانونا للعلاقات الدولية، بينما تتبارى الدول الديمقراطية في ترقية القانون، حتى يتحول إلى فعل أخلاقي؟
ليس الهدف من ذلك التقليل من جناية الحارس الشخصي بنعلا أو رئيسه بالتأكيد. ولكن الدفع إلى التفكير في هذه الشكيزوفيرينيا التي تضرب الوعي والضمير عند حكومات ديمقراطية فقدت نظرتها الكونية والإنسانية، وتكاد تسلّم بانتصار العنف والوحشية خارج حدودها، وتستسلم لحتمية الفوضى والخراب. مثل هذه الأخلاق الشكيزوفرينية على مستوى العلاقات الدولية لا يمكن، إذا استمرت، أن لا تنذر بقطيعةٍ كاملةٍ بين الشعوب الديمقراطية وتلك الخاضعة لحكم القوة والعصبية والمال والفساد، وفي أثرها بتراكم الكراهية والحقد والضغينة لدى أجيالٍ لا يمكن في المستقبل أن تفصل، وهي على حق، بين تسلط النظم الوحشية المدارة من عصابات نهب وسلب، وتلك الحكومات الديمقراطية الكبرى التي رعتها ومدّتها بالوسائل والتقنيات القاتلة، وساعدتها على البقاء ضد إرادة شعوبها. في هذه الحال، كيف يمكن لهذه الدول أن تتصور إمكانية القضاء على العنف المتجذّر في ثنايا العلاقات الدولية، وتفاقم الظلم والمهانة والإذلال الجماعي، وأي استراتيجية يمكن أن تمكّنها من درء انتقال موجات الإرهاب، والأفعال الوحشية المرتبطة به، إلى ربوعها العامرة؟ ألا توجد هناك خياراتٌ أخرى غير المراهنة على مواجهة العنف بعنف أكبر، واستبدال النظم الدموية بنظم أكثر دموية، وتجاوز النزاعات بتحويلها إلى إبادةٍ جماعية؟