ويشير فيلشتينسكي إلى أن المحطة الفاصلة في انتقال الإعلام من قبضة طبقة الأوليغاركية في عهد الرئيس الراحل، بوريس يلتسين، إلى سيطرة الدولة في فترة بوتين، تمثلت باستحواذ شركة “غازبروم ميديا” في عام 2001 على قناة “إن تي في” التي تعد واحدة من أهم القنوات الفيدرالية المعارضة للكرملين.
ويقول فيلشتينسكي في تصريحات لـ”العربي الجديد” من مدينة بوسطن الأميركية حيث يقيم: “لم تكن قناتا “أو أر تي” (الأولى حاليا) و”إن تي في” الرئيسيتان في ذلك الوقت تتنافسان على الجمهور فحسب، وإنما أيضا شكلتا أداتين دعائيتين للجناحين السياسيين المتمثلين بالكرملين والمعارضة”.
ويوضح أن الملياردير اليهودي الأصل، بوريس بيريزوفسكي، كان يملك 50 في المائة من أسهم “أو أر تي” التي أسست لتقديم التغطية الإعلامية والدعائية ليلتسين في الانتخابات الرئاسية عام 2000، بينما كانت “إن تي في” المملوكة للملياردير فلاديمير غوسينسكي تدعم عمدة موسكو آنذاك، يوري لوغكوف، ورئيس الوزراء الأسبق يفغيني بريماكوف، ومع احتدام المنافسة بين بوتين المدعوم من يلتسين في مقابل بريماكوف عام 1999، ضغط مدير ديوان الرئاسة الروسية، على ألكسندر فولوشين، وهدده بـ”تصفية “إن تي في” ما لم تعدل عن دعم بريماكوف – لوجكوف”.
وبالفعل أوفى بوعده بعد فوز بوتين، يضيف فيلشتينسكي قائلا : “كان عملاق الغاز الروسي “غازبروم” يقرض “إن تي في” بانتظام، لتصل المديونية إلى نحو ملياري دولار بحلول عام 2000. وعندما بدأ بوتين بتصفية “إن تي في”، تمت مطالبتها بسداد المديونية، ما أدى لإفلاسها وإخضاعها لغازبروم”.
وتحولت شركة “غازبروم ميديا” اليوم إلى إمبراطورية إعلامية متكاملة، تضم إلى جانب “إن تي في” عددا من القنوات الترفيهية والرياضية، والمحطات الإذاعية، بما فيها إذاعة “إيخو موسكفي” (“صدى موسكو”) ذات التوجهات الليبرالية، وفق قائمة المؤسسات التابعة لها الواردة على موقعها الإلكتروني.
بلغ عدد وسائل الإعلام المسجلة رسميا في روسيا بحلول عام 2017، 80 ألفا، ثلتها إلكترونية، وتضم قائمة وزارة الاتصالات الروسية، 20 قناة فدرالية عامة وإخبارية وترفيهية ورياضية، ومنها القنوات الرسمية مثل الأولى و”روسيا 1″ و”روسيا 24″، و”زفيزدا” التابعة لوزارة الدفاع الروسية، وشبه الرسمية مثل “إن تي في” المملوكة لـ”غازبروم”، بحسب رصد أجرته منصة “ميديا ديغر”.
وعلى الرغم من وفاء بوتين بوعوده أمام سلفه وعدم ملاحقة يلتسين أو أي من أفراد أسرته، إلا أنه بدأ بالتخلص تدريجيا من طبقة الأوليغارشية، بما فيها بيريزوفسكي الذي اضطر إلى مغادرة روسيا ووجد ميتا في لندن عام 2013، ويوضح فيلشتينسكي أن بيريزوفسكي “اعتبر نفسه مالكا بالتلفزيون الروسي، وبدأ يضغط على بوتين لكي يأخذ رأيه بعين الاعتبار، فتلقى أثناء وجوده في لندن اتصالا من فولوشين وتهديدا بسجنه ما لم يبع حصته بالقناة للدولة، فقبل العرض. وبذلك انتقلت القناتان التلفزيونيتان الرئيسيتان إلى سيطرة الكرملين، قبل أن يتم شراء القناة السادسة وصحيفة “كوميرسانت” من بيريزوفسكي أيضا، ثم الاستيلاء على صحيفة “نوفيه إزفيستيا” ، لينتهي وجود بيريزوفسكي كأوليغارشي”.
وشهدت السنوات التالية لحكم بوتين مجموعة من الخطوات لتعزيز سيطرة الدولة على الإعلام، بما فيها تأسيس شبكة قنوات “أر تي” الموجهة إلى الخارج في عام 2005 وتترأس تحريرها الإعلامية الموالية للكرملين، مرغريتا سيمونيان، وتحويل وكالة “نوفوستي” التي كانت تعرف بخط تحريري أكثر اتزانا إلى وكالة “روسيا سيغودنيا” في نهاية عام 2013، والتي جرى تعيين الإعلامي الموالي، دميتري كيسيليوف، رئيسا لها، وعرف عن كيسيليوف تصريحاته المثيرة للجدل مثل حديثه عام 2014 عن قدرة روسيا على “تحويل الولايات المتحدة إلى رماد نووي”، في برنامجه الأسبوعي بالتلفزيون الرسمي.
وترتبط سيطرة الدولة على مفاصل الاقتصاد والسياسة بما جرى مع الإعلام والمجتمع المدني في روسيا كما يرى كوليسنيكوف، قائلا لـ”العربي الجديد”: “هذه المسارات متوازية. كلما ازداد دور الدولة في الاقتصاد، تزايد في السياسة والمجتمع المدني والإعلام”.
ويلخص كوليسنيكوف وضع الإعلام في روسيا الآن، قائلا: “بات معظم وسائل الإعلام، حتى إذا كانت خاصة إسميا، غير مستقلة عن الدولة سياسيا وماليا. تحل الرقابة الفعلية محل الرقابة الذاتية، وباتت وسائل الإعلام المستقلة تواجه تهديدات الإغلاق لأسباب اقتصادية بسبب عدم لجوء المعلنين إلى الصحف المعارضة وعدم استعداد المستثمرين لدعمها، وأخرى سياسية بواسطة آلية توجيه إنذارين، ثم الإغلاق في أي لحظة”.
هامش حرية محدود
تصنف روسيا بين الدول العشر الأكثر خطورة على حياة الصحافيين، إذ قتل تسعة صحافيين خلال الفترة من عام 2008 إلى عام 2017، بحسب بيانات لجنة حماية الصحافيين، (منظمة دولية غير حكومية)، وبالرغم من سيطرة الدولة الروسية على المشهد الإعلامي بشكل شبه كامل، إلا أنها تركت هامشا نسبيا من الحرية للصحافة المكتوبة وبعض القنوات والإذاعة مثل قناة “دوجد” (مطر) الليبرالية المملوكة لسيدة الأعمال ناتاليا سيندييفا وإذاعة “صدى موسكو”، وتعد “نوفايا غازيتا” واحدة من تلك الصحف المملوكة لأعضاء هيئة تحريرها والتي لم تثنها الضغوط الرقابية والاقتصادية بل وحتى اغتيال إحدى صحافياتها، آنا بوليتكوفسكايا، عن تناول قضايا حساسة مثل الانتهاكات بحق المساجين في روسيا والاعتقالات السياسية والمرتزقة الروس في سورية وغيرها، وتعتبر الصحافية في “نوفايا غازيتا”، ناديجدا بروسينكوفا، أن التلفزيون الروسي لم تعد له أي علاقة بالصحافة، بينما تحظى الصحافة المقروءة بهامش من الحرية طالما لا تتجاوز الخطوط الحمر.
وحول الضغوط التي تتعرض لها “نوفايا غازيتا”، أضافت: “لا تحتاج الدولة إلى اختراع أدوات رقابية خاصة، بل يتم الضغط علينا بأساليب اقتصادية عن طريق سن قوانين منع تلقي التمويل من الخارج وفرض غرامات وإصدار إنذارات… إلخ”.
وتقول بروسينكوفا لـ”العربي الجديد”: “لم تعد للتلفزيون الروسي أي علاقة بالصحافة، بل تحول لأداة لتغطية أنشطة السلطة والتعليق عليها في سياق إيجابي. أما الصحف، فتُرك لها مجال أكبر للمناورة بسبب قلة عدد قرائها وعدم تأثيرها على الرأي العام، على عكس القنوات التلفزيونية التي يتابعها ملايين المشاهدين”.
حوادث اغتيال الصحافيين
بعد مرور نحو 12 عاما على جريمة اغتيال بوليتكوفسكايا عام 2006 التي هزت الرأي العام داخل روسيا وخارجها، لم يتم التوصل إلى المحرضين حتى الآن، بل تم سجن المنفذين فقط، وفق ما تذكر به بروسينكوفا.
وفي منتصف يوليو/تموز 2018، ألزمت المحكمة الأوروبية السلطات الروسية بدفع تعويض قدره 20 ألف يورو لذوي بوليتكوفسكايا نظرا للتخاذل عن “الوفاء بإجراء تحقيق فعال” و”عدم إجراء التحقيقات اللازمة لمعرفة المحرض/المحرضين على الاغتيال”.
وتعتبر بروسينكوفا هذا الحكم مهما لتأكيده ما كان معروفا، ولكنه لن يؤدي حتما إلى التوصل إلى المحرضين على الجريمة التي تقود آثارها إلى جمهورية الشيشان، حيث كانت تعمل بوليتكوفسكايا، وفق اعتقاد زملائها.
ورغم أن بوليتكوفسكايا ليست الصحافية الوحيدة التي قتلت في روسيا، إلا أن شهرتها جعلتها رمزا للعمل الصحافي الاستقصائي والصمود والشجاعة، شأنها في ذلك شأن رمز المعارضة الروسية، بوريس نيمتسوف، الذي قتل على بعد أمتار من الكرملين عام 2015.
السيطرة على الإنترنت
تظهر استطلاعات الرأي تراجعا مستمرا لثقة الروس في المعلومات التي يتداولها التلفزيون من 63 في المائة في عام 2015 إلى 43 في المائة حاليا. ومع ذلك، لا يزال التلفزيون يحظى بثقة أكبر من وسائل الإعلام الإلكترونية التي يثق فيها 20 في المائة فقط من الروس، وفق بيانات صندوق “الرأي العام” (مؤسسة روسية مستقلة).
ومع زيادة سيطرة الدولة على الصحافة المرئية والمطبوعة، تحول الإنترنت إلى الأداة الرئيسية للمعارضة الروسية لتعبئة أنصارها وتنظيم الاحتجاجات وتداول فضائح فساد أكبر المسؤولين في الدولة، وتجلى ذلك بوضوح خلال التظاهرات المناوئة للسلطة التي خرجت بعد أن نظمها مؤسس “صندوق مكافحة الفساد” (منظمة غير ربحية) ، المرشح المستبعد من الانتخابات الرئاسية، أليكسي نافالني، في العام الماضي بعد بث فيلمه على قناته على يوتيوب والذي اتهم فيه رئيس الوزراء الروسي، دميتري مدفيديف، بامتلاك “أصول سرية” .
ومع ذلك، توضح بروسينكوفا أن هامش الحرية على الإنترنت أكبر منه حتى مقارنة بالصحافة المستقلة، قائلة: “هناك خطوط حمراء في الصحافة المهنية المقروءة، بينما يتمتع الإنترنت بحرية أكبر. هناك أشياء ينشرها المعارض أليكسي نافالني، بينما لا يمكننا نشرها نظرا لضرورة التأكد من صحة كل كلمة”.
ومع إدراكها خطورة الإنترنت ودوره في تعبئة المحتجين، سعت الدولة الروسية لتشديد الرقابة على الفضاء الإلكتروني عن طريق سن قوانين تسمح بحجب المواقع دون أحكام قضائية، وفي هذا الإطار، يشير المدير التنفيذي لـ”مجموعة الدفاع عن الإنترنت”، ميخائيل كليماريف، إلى أن قائمة المواقع المحظورة في روسيا تضم نحو 3.8 ملايين عنوان بروتوكول الإنترنت (“آي بي”) لـ 110 آلاف موقع، متجاوزة بذلك الصين حتى كما يقول لـ”العربي الجديد”: “هناك عشر جهات منوط بها حجب المواقع، ومنها النيابة العامة ومحكمة موسكو ووزارة الداخلية وهيئة الرقابة الروسية “روس كوم نادزور” .
وتشمل القائمة السوداء عددا من المواقع المعارضة مثل صحيفة “غراني.رو” الإلكترونية وموقع “كاسباروف.رو” التابع لبطل العالم للشطرنج السابق، غاري كاسباروف، المعروف بمواقفه المناهضة للكرملين، وهي مدرجة على قائمة المواقع التي حجبتها هيئة الرقابة الروسية الحكومية.
وحول آلية تأكد السلطات الرقابية من تطبيق حظر تصفح المواقع المحجوبة، يضيف: “في الوقت الحالي، جميع شركات الإنترنت الروسية ملزمة باعتماد برامج ومعدات من شأنها منع اتصال مستخدميها بالمواقع المحظورة، وتتم مراجعة مدى التزامها بذلك”.
وبالرغم من الضغوط الحالية وتأثيراتها إلا أن كليماريف يتوقع استمرار تشديد الرقابة على الإنترنت بموجب مجموعة قوانين مكافحة الإرهاب والمعروفة إعلاميا بـ”حزمة ياروفايا” (تعود هذه التسمية إلى النائبة البرلمانية إيرينا ياروفايا التي اقترحتها) وستلزم شركات الاتصالات بحفظ بيانات حركة الإنترنت (ترافيك) بالخوادم اعتبارا من 1 أكتوبر/تشرين الأول المقبل.