أزمة العلاقات التركية الأميركية: هل بدأت أسس التحالف المشترك تتمزق؟

أزمة العلاقات التركية الأميركية: هل بدأت أسس التحالف المشترك تتمزق؟

تشهد العلاقات الأميركية – التركية تدهورًا غير مسبوق منذ نهاية تموز/ يوليو 2018، وصل إلى حد فرض عقوبات متبادلة، مع احتمالات تصعيد المواجهة. والسبب المباشر لتفجير الأزمة الأخيرة بين الطرفين، بحسب الولايات المتحدة الأميركية، هو رفض تركيا الإفراج عن القس الأميركي، أندرو برانسون، المحتجز منذ عام 2016 والذي تتهمه تركيا بالتجسس والإرهاب، وترى أن الولايات المتحدة تدعم حزب العمال الكردستاني، وتتعاون مع منظمة رجل الدين التركي، فتح الله غولن الذي يقيم في الولايات المتحدة، والذي يتهمه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالتخطيط لمحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، في حين أن واشنطن ترفض تسليم غولن إلى السلطات التركية بحجة عدم كفاية الأدلة التي قدمتها أنقرة ضده. ولم تفلح الاتصالات السياسية بين البلدين، حتى الآن، في احتواء التدهور الحاصل في العلاقات، خصوصًا مع التداعيات الكبيرة للعقوبات الأميركية على الاقتصاد التركي، وإصرار أنقرة على عدم الخضوع لما تصفه بمواقف واشنطن “العدائية”. وقضية برانسون لا تمثّل إلّا رأس جبل الجليد ومظهرًا من مظاهر أزمة علاقات إستراتيجية مستفحلة بين البلدين الحليفين منذ سنوات، رغم أنها صاعق التفجير في الأزمة الأخيرة.

أسباب الأزمة الراهنة
رفضت تركيا الإفراج عن القس الأميركي الإنكليزي، برانسون، الذي يدير كنيسة في مدينة إزمير ويقيم في تركيا منذ نحو ثلاثة وعشرين عامًا. وقد اعتقلت السلطات التركية برانسون،

في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، إضافة إلى مواطنين أميركيين آخرين. ويرفض مسؤولون أميركيون التهم الموجهة إلى برانسون باعتبارها “كيدية”، ويقولون إن السبب الحقيقي لاعتقاله هو أن تركيا تريد استخدامه ورقة مساومة مع الولايات المتحدة في قضية تسليم غولن، فضلًا عن الإفراج عن المصرفي التركي، محمد هاكان أتيلا، نائب رئيس بنك “خلق” الحكومي. وكانت محكمة أميركية قضت في أيار/ مايو 2018 بسجن أتيلا اثنين وثلاثين شهرًا بتهم، منها: “خرق عقوبات واشنطن على إيران”، و”الاحتيال المصرفي”، و”المشاركة في خداع الولايات المتحدة”. وتنفي الحكومة التركية اتهامها باستخدام برانسون ورقة للمساومة، وتقول إن اعتقال أتيلا في آذار/ مارس 2017 في مطار نيويورك كان بدسيسة من منظمة غولن.
وفي 26 تموز/ يوليو 2018، غرد دونالد ترامب أن واشنطن “ستفرض عقوبات كبيرة” على تركيا إذا ظلت ترفض الإفراج عن برانسون؛ وذلك على الرغم من أن محكمة تركية كانت أمرت قبل ذلك بيوم واحد بتحويل برانسون من السجن إلى الحبس المنزلي بسبب ظروفه الصحية. وقد ردت تركيا بأنها لا تقبل لغة التهديد. وبحسب مسؤولين أميركيين، فإن الولايات المتحدة طرحت موضوع القس مع المسؤولين الأتراك غير مرة، وإن ترامب نفسه فاتَح أردوغان في موضوعه، أيضًا، خلال قمة حلف الناتو في بروكسل، في تموز/ يوليو 2018. ووفق وسائل إعلام أميركية، فإن ترامب كان يظن أنه توصل مع أردوغان إلى اتفاق حول الخطوط العريضة للإفراج عن برانسون خلال قمة الناتو، وأن الاتفاق بين الرئيسين تضمن الإفراج عن القس مقابل الإفراج عن أتيلا، على أن يقضي بقية المدة المتبقية له في سجن تركي، كما أن أردوغان طلب من ترامب أن يتدخل لدى إسرائيل للإفراج عن المواطنة التركية إبرو أوزكان التي كانت سلطات الاحتلال الإسرائيلية اعتقلتها بذريعة محاولة إيصال دعم إلى حركة حماس. وقد تم الإفراج عن أوزكان، لكن تركيا تصر على أن ذلك لم يكن نتيجة تدخل أميركي بطلب تركي. ويقول المسؤولون الأميركيون إن الأتراك أبدوا امتعاضهم من أن إطلاق سراح أتيلا كان سيستغرق ما بين أسبوعين إلى ثلاثة، كما أنهم طلبوا إسقاط غرامة فرضتها وزارة المالية الأميركية على بنك “خلق” وتقديم ضمانات بعدم متابعة البنك قضائيًا مرة أخرى. ولكن يبدو أن المحادثات بين الطرفين فشلت، وهو ما أثار غضب ترامب ودعاه إلى فرض العقوبات على تركيا.
ولا شك في أن التصعيد الإعلامي الأميركي والتركي يزيد من صعوبة حل الأزمة؛ لأنه يحرج صناع القرار، فيبدون في موقف ضعف أمام الرأي العام في حالة التنازل. ومن ناحية أخرى، فإن التصعيد الإعلامي ذو علاقة بالشعبوية السياسية الموجهة إلى جمهور الرئيس الحاكم. وبهذا المعنى، فإن صناع القرار المعنيين، الأميركيين والأتراك، يصبحون أسرى شعبويتهم السياسية. ولكن، كما في أماكن أخرى في العالم، كان الرئيس الأميركي ترامب هو المبادر بالتصعيد. ويصعب فصل هذا التصعيد عن خلافات سياسية للإدارة مع تركيا، ازدادت حدةً مع وصول رئيس متأثر بموقف اليمين الأميركي واللوبي الإسرائيلي السلبي جدًا تجاه أردوغان وحزب العدالة والتنمية.

العقوبات الأميركية
جاءت العقوبات الأميركية على دفعتين؛ الأولى رمزية، أعلنت عنها وزارة المالية الأميركية،

وشملت وزير العدل التركي عبد الحميد غول ووزير الداخلية سليمان صويلو، بسبب دورهما المفترض في قضية برانسون. وردّت تركيا بإعلان عقوبات مماثلة على وزير العدل ووزيرة الأمن القومي الأميركيَّين. وقد اعتبر، حينئذ، وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، لجوء الولايات المتحدة إلى عقوبات ضد حليف مؤشرًا دالًا على جديتها في موضوع الخلاف بينهما. وترتب على إعلان العقوبات الأميركية انهيار كبير في سعر الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي، وارتفاع في نسب التضخم، كما أثارت العقوبات خوف المستثمرين. ومع فشل مهمة وفد تركي زار واشنطن، في 8 آب/أغسطس 2018، برئاسة نائب وزير الخارجية، سيدات أونال، في التوصل إلى اتفاق، أعلن ترامب عن فرض دفعة جديدة من العقوبات على تركيا شملت فرض رسوم جمركية على واردات الصلب والألمنيوم التركية، بنسبتَي 50 في المئة و20 في المئة على التوالي. وقال ترامب في تغريدة: “علاقاتنا بتركيا ليست جيدة في الوقت الراهن!”. وتمثل نسبة الصادرات التركية إلى الولايات المتحدة من الصلب والألمنيوم 13 في المئة من صادراتها الكلّية.

تداعيات العقوبات الأميركية تركيًا
يحاول ترامب، على نحو مقصود ومعلن، إلحاق أكبر ضرر ممكن بالاقتصاد التركي من خلال العقوبات التي فرضها، إذ أشار في تغريدته إلى أن “الليرة التركية تنخفض على نحو سريع مقابل الدولار القوي جدًا”. وفعلًا، خسرت الليرة بعد تغريدته نحو 14 في المئة من قيمتها. وإضافة إلى اهتزاز سعر صرف الليرة، اهتزت الأسواق المالية من جرّاء القلق من الاستثمار في الأوراق المالية التركية. كما ارتفعت العائدات على السندات الحكومية التركية مدة عشر سنوات ارتفاعًا حادًا، لتصل إلى أكثر من عشرين في المئة، وهو ما يعني أنّ المستثمرين يطالبون بعائدات أعلى كثيرًا، مقابل استثمار ينطوي على مخاطر متزايدة. وقد أعلن البنك المركزي التركي أنه لن يتمكن من ضبط نسبة التضخم عند خمسة في المئة المستهدف في السنوات الثلاث المقبلة. وساهمت العقوبات الأميركية في انخفاض واضح في تدفق رؤوس الأموال الأجنبية قصيرة الأمد إلى تركيا، وهو ما أدى إلى عجز كبير في الحساب التركي الجاري.

الرد التركي
اعتبر الرئيس أردوغان أن بلاده تتعرض لحرب اقتصادية، وهدد بالبحث عن أسواق بديلة وتحالفات جديدة إنْ لم تتراجع الولايات المتحدة عن إجراءاتها، وإنْ لم تأخذ هواجس تركيا ومصالحها في الحسبان. وقال أردوغان إن تركيا “لا تخضع للتهديدات”، وإنها “ستقوم بما يخدم مصالحها”، مشددًا على ضرورة أن تتخلى الولايات المتحدة عن “فكرتها الخاطئة المتمثلة بأن علاقاتنا يمكن أن تكون غير متماثلة، كما عليها أن تتعايش مع حقيقة مفادها أن تركيا لديها بدائل”. ولوَّح أردوغان في تصريحات تالية بأنّ بلاده تستعد لاستخدام عملتها المحلية في علاقاتها التجارية بروسيا وإيران والصين وأوكرانيا “وغيرها من الدول التي نملك التبادل التجاري الأكبر معها”، كما توعد “الأطراف التي تحاول تصفية بلاده” بدفع ثمن ذلك “في منطقتنا أو في سياساتها”.

تاريخ من الخلافات
تُعد أزمة برانسون أحد تعابير أزمة إستراتيجية في العلاقات بين الدولتين تمتد منذ أيام إدارة

الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما. فمنذ ذلك الحين، كان واضحًا أن ثمة افتراقًا أميركيًا – تركيًا في الرؤى والأولويات والمقاربات والإستراتيجيات في الإقليم، خصوصًا في السياق السوري، وبدرجة أقل الفلسطيني. وتوسعت هوة الخلافات بين البلدين حول الموقف من الثورات العربية، والثورات المضادة، والديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، والغضب التركي من الموقف الأميركي الغامض من المحاولة الانقلابية عام 2016، والموقف من إيران وروسيا، وكذلك الأزمة الخليجية الأخيرة، والسياسات الدفاعية المشتركة لحلف الناتو، فضلًا عن محاولات الكونغرس تعطيل تسليم تركيا طائرات أف-35. وقد أشار أردوغان إلى بعض نقاط الاختلاف والاحتكاك بين البلدين في مقالته الأخيرة في نيويورك تايمز، محذرًا من أنه “ما لم تبدأ الولايات المتحدة في احترام سيادة تركيا وتثبت أنها تتفهم الأخطار التي تواجهها أمتنا، فإن شراكتنا ستكون في مهب الريح”.

خلاصة
من الواضح أن تغيرًا عميقًا يطرأ على العلاقات التركية – الأميركية منذ فترة، بدليل الخط البياني المتصاعد للأزمات المتتالية بين الطرفين، وسعي تركيا المتنامي في البحث عن “أصدقاء وحلفاء جدد”. مع ذلك، لا يظهر حتى الآن ما يدل على أن تركيا باتت مستعدة للتخلي عن حلف شمال الأطلسي، وغير وارد تخلّي الولايات المتحدة عن تركيا قريبًا؛ فالعقيدة الدفاعية التركية مؤسسة على عضويتها في الناتو، في حين أن الولايات المتحدة – والناتو بوجه عام – لا تزال في حاجة إلى تركيا التي يمثل جيشها ثاني قوة في التحالف الغربي من حيث الحجم. وتدرك الولايات المتحدة أنّ مزيدًا من الضغوط قد يدفع تركيا إلى الاقتراب أكثر من روسيا التي تحاول ملء أي فراغ في المنطقة. من جهة أخرى، ليس للولايات المتحدة وحلف الناتو حتى الآن بديل فعلي من القواعد العسكرية الجوية والصاروخية والاستخباراتية للحلف في تركيا، في الوقت الذي تتجه فيه منطقة الشرق الأوسط نحو مزيد من الاضطراب بسبب محاولات احتواء النفوذ الإيراني.
في السياق الاقتصادي، تبقى تركيا مرتبطة بالاقتصادات الغربية وتجارتها مرتبطة بالدولار؛ وذلك رغم الحديث عن استخدام العملات الوطنية في العلاقات التجارية البينية بدول؛ مثل روسيا، والصين. كما أن تركيا غدت بعد أزمتها الاقتصادية الأخيرة في حاجة أكثر إلى قروض واستثمارات دولية، وهي ليست في وضع يؤهلها اليوم للدخول في مواجهة مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية التي تخضع للنفوذ الأميركي. باختصار، للطرفين مصلحة حقيقية في حل الأزمة بينهما، لكنّ المقاربات الشعبوية التي يستخدمانها لن تجعل الحل سهلًا أو قريبًا على الأرجح.

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية