تسلط مناسبة إحياء ذكرى اختطاف الإمام السيد موسى الصدر، التي جرت الجمعة في منطقة البقاع بشرق لبنان، الضوء على الدور الذي تلعبه حركة أمل داخل الوعي الشيعي العام في هذا البلد، ناهيك عن موقعها داخل الثنائية الشيعية، حيث تتقاسم مع حزب الله السطوة على الفضاء الشيعي اللبناني عامة.
وتعيد المناسبة، بعد أربعين عاما على اختفاء الصدر، تأكيد تمسك حركة أمل ورئيسها نبيه بري بمرجعية ومناسبة يراد لهما أن يشكلا قاعدة الشرعية التي تقوم عليها الحركة بعد عقود من قيامها عام 1974.
على الرغم من سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا كما اعتقال مسؤولي المخابرات في نظامه، وعلى الرغم من تردد تقارير ليبية تحدثت عن مقتل الصدر ورفيقيه، الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدرالدين، إلا أن حركة أمل وبري رفضا هذه الفرضية، وبقي الخطاب العام يطالب بعودة “الإمام المغيّب”، بما اعتبر تمسكا بقضية أبدية باتت بنيوية في تركيبة الحركة وشرعية وجودها.
وقال بري، في كلمته بمناسبة ذكرى اختطاف الإمام موسى الصدر، إنهم سيواصلون العمل على “تحرير الإمام موسى الصدر ورفيقيه في مكان احتجازهم غير المعروف، مشددا على أن مطالبهم كانت ولا تزال إيلاء هذه القضية كل الاهتمام”.
وأكد بري ثقتهم بالجيش اللبناني والقوى الأمنية في حفظ الأمن في البقاع، معتبرا أن ما تحتاج إليه المنطقة خطة إنمائية وإصدار قانون يشرع زراعة “القنب الطبي” لأغراض طبية وصحية”.
وأعلن باسم حركة أمل وحزب الله “رفع الغطاء عن كل مرتكب أو مهرب أو مروج أو مسيء”، وقال “أطلب باسم كتلتينا النيابتين وباسم القوى الحية التي تمثل وامتداداتها الشعبية إصدار عفو عام مدروس يستثني جرائم القتل واستهداف الأجهزة الدفاعية والأمنية”.
وفي الملف الحكومي، شدد بري على أن حكومة لبنان يجب أن تمثل كل قوى لبنان وأن تكون قراراتها مستقلة ومرتكزة على الوحدة الوطنية. وأمل رئيس مجلس النواب اللبناني إن تحصل فكفكة للعقد في الاجتماع المقبل بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري.
ورأى بري أنه يجب زيادة أدوار المؤسسات الرقابية وما يتعلق بإنشاء الهيئة لمكافحة الفساد وحماية كاشفي الفساد.
وجدد بري رفضه لمنطق العقوبات على الشعوب، قائلا “نجدد ثقتنا بدور إيران بدعم شعوبنا في وجه العدوانية الإسرائيلية”.
اختلاف المرجعيات
إقامة مهرجان إحياء ذكرى غياب الصدر في البقاع بعد أن درجت العادة أن يقام في الجنوب يأتي في سياق سعي حركة أمل ربما لتصويب أداء تتحمل الثنائية الشيعية المسؤولية الكاملة عنه
تختلف مرجعية حركة أمل عن مرجعية حزب الله، رغم إيرانية موسى الصدر. وفيما أعلن الحزب في إطلالاته الأولى، وعلى لسان حسن نصرالله، أحد قادته آنذاك، أن هدفه إقامة جمهورية إسلامية في لبنان تكون تابعة لجمهورية الولي الفقيه في إيران، تمسكت حركة أمل بلبنانية سعيها وأهدافها وبالهوية العروبية لخطابها على النحو الذي قاده وبشّر به المؤسس موسى الصدر.
وعلى الرغم مما أحدثه نشاط الصدر وترؤسه المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، منذ عام 1969 وحتى اختفائه، وإنشائه لـ”أفواج المقاومة اللبنانية-أمل” من تحولات داخل الطائفة الشيعية، إلا أن هذا التحول بقي محدودا مقارنة بما كانت حركات سياسية أخرى، يسارية وقومية وملحقة بالمقاومة الفلسطينية، تملكه داخل صفوف هذه الطائفة.
لم يتعملق حجم حركة أمل إلا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وبعد إجلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد قيام النظام السياسي اللبناني في عهد الرئيس أمين الجميل بحملة قمع وتضييق ضد كافة منابر الاعتراض السياسي لليسار والقوميين. فقد تولت حركة أمل برئاسة بري احتكار الفضاء العام المعارض وباتت منبرا للمعترضين على التحولات التي أحدثها “الاجتياح” على تركيبة النظام السياسي في البلد.
قاد نبيه بري حركة أمل على أرضية التحالف مع نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. فيما تصاعد نشاط حزب الله على أرضية واقعين: الأول أن حزب الله يعتبر، بكوادره وقادته، انشقاقا عن حركة أمل. والثاني أن أجندة الحزب ترتبط عضويا وبشكل كامل مع أجندة الولي الفقيه في إيران، وفق تصريحات نصرالله في السنوات الأخيرة.
غير أن ما هو حديث في تصريحات نصرالله كان حقيقة منذ بداية انطلاق الحزب وهو ما قاد إلى تصادم المرجعيات والأغراض بين الحركة والحزب، وهو ما قاد إلى “حرب الأشقاء” التي خيضت بين الشيعة من أنصار الطرفين في ثمانينات القرن الماضي، والتي تتحدث بعض التقديرات أنها أسقطت 5 آلاف قتيل.
عكسَ صدام التيارين جانبا من صدام مضمر بين طهران ودمشق آنذاك. وعكست نهاية الصدام تفاهما بين العاصمتين وتصاعد نفوذ إيران في سوريا كما في لبنان. وإذا ما استطاع الحزب والحركة إدارة تحالفهما وفق روحية التحالف بين إيران وسوريا، إلا أن دموية الصدام تركت جروحا عميقة لم تندمل، بحيث أن أنصار أمل وأنصار الحزب يمثلان ثقافتين مختلفتين كما يحملان توترا داخليا يأخذ في مناسبات عديدة أعراض خارجية ظاهرة تجري بسرعة مداراتها ومعالجتها من قبل قيادات الحزب والحركة.
قاد الصدام إلى تنظيم اللعبة السياسية لقادة الطائفة الشيعية بحيث مثّلت حركة أمل القوة الصاعدة للشيعة داخل النظام السياسي اللبناني بعد اتفاق الطائف.
يعتبر نبيه بري شريكا كاملا لنظام تلك الحقبة مستفيدا من دعم نظام الوصاية السوري على لبنان. بدا أن علاقة الحزب بالحركة هو زواج الضرورة بحيث تدرك حركة أمل ما بات يملكه حزب الله من “فائض قوة” ويدرك حزب الله أن حركة أمل رقم صعب في المعادلة الشيعية ولا مصلحة له في الصدام معها. غير أن تغريدات حديثة لجميل السيّد، والذي كان يشغل منصب مدير عام الأمن العام في عهد “الوصاية” قبل أن يعتقل ويفرج عنه بعد سنوات في قضية اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، أعادت تسليط الضوء على ذلك التناقض الخفيّ بين حزب الله وحركة أمل.
هيّأ حزب الله الظروف لانتخاب جميل السيّد نائبا في منطقة البقاع. وبدا أن الرجل القريب من النظام السوري، منذ أن كان ضابطا صغيرا في الجيش اللبناني، والحليف لحزب الله ينطق في تغريداته بما يعبّر عن تبرم ما لدمشق وللحزب.
غمز السيّد من قناة حركة أمل في المسؤولية عن تدهور التنمية وغيابها في البقاع وتطورها في الجنوب، خصوصاً أن أمل كانت جزءا من كافة الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف عام 1989 كما أنها كانت جزءا من كافة المؤسسات السياسية والإدارية للبلد.
اختلافات حول نظام الأسدويسجل معارضو بري للرجل هذا الموقف الذي حمى شيعة لبنان من سمعة أنهم جميعهم مقاتلين في صفوف الأسد، والذي عزز دور بري بصفته رئيسا للسلطة التشريعية وجزءا من نظام سياسي لبناني يُفترض أن يتمتع بهامش من الاستقلالية وأن يراعي هوية لبنان العربية ومصالحه وعلاقاته مع المحيطين العربي والدولي. تأخذ دمشق على حركة أمل ونبيه بري عدم اتخاذه مواقف داعمة للنظام السوري على النحو الذي اتخذه حزب الله. لم يقم بري بزيارة دمشق ولم يدفع بمقاتلين من حركة أمل للمشاركة في الحرب السورية دفاعا عن نظام بشار الأسد على منوال ما فعله حزب الله.
وتعتبر إقامة مهرجان إحياء ذكرى غياب الصدر في البقاع بعد أن درجت العادة أن يقام في الجنوب، في سياق سعي حركة أمل ربما لتصويب أداء تتحمل الثنائية الشيعية المسؤولية الكاملة عنه كان وراء حالة الإهمال التي تعاني منها منطقة البقاع. ويأتي مهرجان حركة أمل بعد أيام على مهرجان حزب الله هناك وخطاب ألقاه نصرالله قيل أيضا إنه جاء استرضاء لجمهور الشيعة المتبرّم في هذه المنطقة.
إلا أن اللافت أن ما بين المهرجانين عودة لتباين في الجانب الوجودي للحزب والحركة وعودة لطرح أسئلة حول قواعد التعايش الجديدة التي سترعى السلم بينهما. فحركة أمل اعتادت خلال العقود الأخيرة على احتكار الجانب المتعلق بالتنمية للشيعة، فيما رفع حزب الله لواء “المقاومة” ومقارعة إسرائيل ومقاتلة “التكفيريين” ونصرة الحوثيين في اليمن والذود عن الشيعة في الخليج، لا سيما في السعودية والبحرين.
غير أن تشديد نصرالله أثناء حملة الانتخابات النيابية الأخيرة على أن الحزب سيتفرغ لقضايا التنمية ومكافحة الفساد، أظهر لحركة أمل بروز منافس مقبل ينهي
احتكارها لهذا القطاع، وبالتالي احتمال تصاعد لهجة المحاسبة لدى الحزب التي ستمسّ مسار أمل في هذا المضمار ومسؤوليتها في ذلك.
تكتيكات بري ونصرالله
على الرغم من أن حركة أمل هي جزء أساسي مما عرف بمعسكر 8 آذار، الذي قاده حزب الله بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، وعلى الرغم من التحالف المتين مع حزب الله داخل الثنائية الشيعية، إلا أن خيارات بري السياسية تبدو تأخذ مسافة عن خيارات الحزب، ليس في كيفية مقاربة العلاقة مع دمشق فقط، بل في الموقف من القضايا الداخلية والمتعلقة خصوصا هذه الأيام بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة.
لم ينتخب بري ونواب حركة أمل ميشال عون رئيسا للجمهورية اللبنانية على الرغم من تحالف الأخير مع حزب الله منذ “ورقة التفاهم” الشهيرة بينهما في فبراير من عام 2006. وصل الخلاف بين الحركة والتيار الوطني الحر إلى حد الصدام بعد أن وصف رئيس هذا التيار، جبران باسيل، بري بـ”البلطجي”.
يؤيد بري الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في مطالبه الوزارية على الرغم من أن النائب الدرزي طلال أرسلان، خصم جنبلاط، متحالف مع حزب الله. ويتفهم بري مطالب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع بحقيبة وزارية سيادية، بما في ذلك وزارة الدفاع، مقابل رفض عون وحزب الله ذلك.
ويجاهر بري بدعمه المطلق لجهود رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، فلا يجاري عون في تلميحه، من خلال دراسة وزير العدل المقرب منه سليم جريصاتي، باجتهادات دستورية يكون مجلس النواب جزءا منها لسحب التكليف من الحريري.
تحولات إيران معطوفة على التسويات الأممية المقبلة في سوريا ستعيد رسم الخرائط في المنطقة، وسيعيد ذلك حكما رسم العلاقة الصعبة والملتبسة في لبنان بين حركة أمل وحزب الله
مع ذلك لا يرى مراقبون في الأمر تناقضا ما بين الحركة والحزب، بل هو توزيع أدوار متقن، بحيث تتكامل تكتيكات بري مع استراتيجيات حزب الله. ويؤكد هؤلاء أن بري يتحرك ضمن المتاح والمسموح، وأنه كان عصا حزب الله الضاربة في كل المراحل الدراماتيكية التي شهدها لبنان بعد اغتيال الحريري. ويذكّر المراقبون أن بري أقفل مجلس النواب وشلّ وقدراته ضد حكومات فؤاد السنيورة وسعد الحريري في السابق.
كما منع انعقاد جلساته لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان عام 2014، ولم يسمح بذلك إلا عندما تأمن انتخاب ميشال عون في أكتوبر من عام 2016.
وكانت حركة أمل شريكة ميدانية كاملة في التحركات التي اندلعت في المراحل اللاحقة على اغتيال رفيق الحريري، والتي قادت إلى إقفال الطرقات أو احتلال الوسط التجاري لبيروت وصولا إلى هجمات 7 أيار.
لكن، الثابت أيضا أن حركة أمل، بزعامة نبيه بري، تؤمن للشيعة في لبنان ملاذا بديلا عن ذلك الذي استقطبه حزب الله لديهم تحت عنوان “نصرة المقاومة”.
دفع الشيعة في الخليج ثمناً باهظا لا سيما لمن ثبت مناصرته منهم لحزب الله. فالحزب متهم بزرع خلايا عسكرية خطيرة في الكويت، ودعم حركات تمرد شيعية في البحرين والسعودية، فيما لم يتوقف زعيمه عن مهاجمة السعودية وحلفائها في المنطقة.
ويدفع شيعة لبنان حاليا ثمن ارتباط بعضهم بالبحبوحة المالية لحزب الله والتي تتعرض لأزمة حادة هذه الأيام، كما ثمن ارتباط بعض رجال الأعمال منهم بالحزب الذي يتعرض لعقوبات أميركية قاسية باتت تطالهم وتطال أعمالهم وسمعتهم في الأسواق.
العواصف التي تهب على إيران من الداخل والخارج ستربك موقع طهران في المنطقة وتصدّع موقع حزب الله وبالتالي تصدع مبررات العلاقة بين الحزب وبيئته.
وعلى الرغم من أن حزب الله يحاول جاهدا تأمل التحولات والتأقلم معها، وعلى الرغم من أنه يمتلك دعما قويا لدى شيعة لبنان، إلا أن تحولات إيران معطوفة على التسويات الأممية المقبلة في سوريا ستعيد رسم الخرائط في المنطقة، وسيعيد ذلك حكما رسم العلاقة الصعبة والملتبسة في لبنان بين حركة أمل وحزب الله.