لم يتعامل معظم الإعلام التركي بعد مع هذه الأنباء عن نشر أميركا أجهزة رادار على بعد مرمى حجر من الحدود التركية السورية. ربما لا يريد نشر معلومات غير مؤكدة بعد، أو أن أولويات الداخل التركي أهم من أنباء من هذا النوع، أو أنه لم يتنبه حتى الآن إلى خطورة هذه الخطوة الأمنية والعسكرية الأميركية على الأمن القومي التركي. وحتما للاتصال الهاتفي، أخيرا، بين وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، ونظيره الأميركي جيمس ماتيس، علاقة حتما بالالتفافة الأميركية وأسبابها وأغراضها، لكن الواضح أن واشنطن لن تأخذ كثيرا بما تقوله وتريده أنقرة، حيث تتزايد نقاط الخلاف والتباعد السائرة نحو الطلاق الاستراتيجي.
ما الذي يدفع واشنطن التي كانت في يونيو/ حزيران 2013 تقول إن إقامة منطقة حظر طيران في سورية ستكون أصعب بكثير، وأكثر تكلفة مما كان عليه الحال في ليبيا، وإنه ليس للولايات المتحدة مصلحة وطنية في المضي في خيار فرض منطقة حظر طيران في سورية، لأنه قد يستلزم تدخلا عسكريا أميركيا مكثفا غير محدّد المدة؟ ما الذي دفعها إلى تغيير رأيها، والذهاب في منحًى معاكس لما قالته أكثر من مرة؟
هل هذا القرار أميركي بحت، أم أنه يعود إلى قوات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش؟ وهل
الهدف هو حقا كما ردّدت واشنطن دائما تعزيز قدرات “قسد” في مناطق سيطرتها، والتحضير للحملة المرتقبة ضد آخر جيوب تنظيم الدولة الإسلامية في ريف الحسكة الجنوبي؟ أم هي خطوة تندرج في إطار حماية واشنطن حصتها في سورية عبر حليفها الكردي الذي يلهي النظام باحتمالات التفاهم معه، وتقديم مصلحة سورية على مصلحة أميركا؟ أم أن القرار الأميركي هو عملية رد استراتيجي على رفض التفاهم الثلاثي في أستانة بالسماح للمقاتلات الأميركية بعبور أجواء مناطق تخفيض التوتر، المتفق عليها بين روسيا وتركيا وإيران، والذي أغضب واشنطن “لأنه يقيد تحركاتها في الحرب على التنظيمات الإرهابية”؟
قدّم المبعوث الأميركي الجديد إلى سورية، جيمس جيفري، وقبل تعيينه، اقتراحات خطية، إلى البيت الأبيض، تضمنت فرض حظر جوي وبري في شمال سورية وشرقها، في مسعى إلى القضاء على “داعش”، ووقف التمدّد الإيراني في المنطقة، لكن المستهدف الحقيقي هنا هو الخطط التركية في الشمال السوري، لا سيما في منبج وعفرين وإدلب، وتعطيل أية عملية عسكرية تركية محتملة في شرق الفرات.
كانت الخطوة الأميركية متوقعة منذ أكثر من عام، وبعدما تعثرت محادثات جنيف، واستبعدتها اتفاقيات أستانة، وتحركت واشنطن لبحث خيارات بديلة، بينها استخدام صواريخ بعيدة المدى، لمنع نظام الأسد من استخدام طائراته، وإيجاد ممرّات إنسانية، وتدريب مقاتلي المعارضة في الأراضي التي تسيطر عليها. تقلد واشنطن الروس والأتراك والإيرانيين هنا، على الرغم من معرفتها أن خطوة من هذا النوع، لم يشرعها مجلس الأمن الدولي والقرارات الأممية، تتعارض مع ما ردّدته عن السيادة السورية ووجوب احترامها.
تعزّز رسائل البنتاغون، عبر نقلةٍ من هذا النوع، تمسّك أميركا بالوجود والبقاء في سورية، لحماية حصتها خلال المساومات والصفقات الإقليمية والدولية أولا، وإصرارها على مشروعها الكونفيدرالي القائم على قبول الخصوصية الدستورية والسياسية لحلفائها الأكراد في الشمال والشرق السوريَين.
قد تقول أميركا إن الهدف هو توفير الحماية لجنودها وتجهيزاتها في سورية، لكنها تريد بعد إدخال بعض التعديلات، تكرار ما فعلته مع صدام حسين، في إطار إنشاء مناطق حظر الطيران لحماية شمال العراق من الهجمات الجوية في شمال سورية هذه المرة، وذلك عبر منع الطلعات الجوية التركية فوق المنطقة، ثم توفير الحماية الجوية لحليفها المحلي “قسد”، على الرغم من التوصيفات التركية بشأن هذه المجموعات التي تتهمها بارتباطها المباشر بحزب العمال الكردستاني.
الخطوة الأميركية واضحة، هي تستهدف الأمن القومي التركي، قبل تقييد تحرّك النظام في سورية، لكن المفاجأة قد تكون عندما تعلن واشنطن أنها قرّرت توسيع رقعة مساحة الحظر، لتشمل منطقتَي قنديل وسنجار في شمال العراق. وكانت أنقرة قد أعلنت، في الأسابيع الأخيرة، عن مقتل 25 قياديا وكادرا في تنظيم حزب العمال في عملياتها العسكرية في شمال العراق. ويبدو أن الولايات المتحدة تريد قطع الطريق على أية عمليات عسكرية جوية تركية مشابهة في شمال شرقي سورية في المستقبل.
الهدف هو رصد تحرّك الطيران التركي في المنطقة، لكن الهدف غير المعلن هو إعداد ” قسد” لإدارة هذه الأجهزة، وتحضيرها لامتلاك سلاح جو حربي، بعد تعلم الدرس من التجربة في شمال العراق. رادارات أميركية في كوباني والحسكة والرميلان، ونشر منظومات دفاعية وهجومية متطوّرة، هي حتما ليست لمحاربة ما تبقى من “داعش”، الهدف هو التمهيد لإقامة طويلة الأمد في سورية، تحت ذريعة ضمانة رحيل آخر مقاتل محسوب على إيران من سورية. والهدف أيضا هو توفير الحماية الجوية لـ “قسد”، لكن الهدف الحقيقي هو إنشاء قاعدة عسكرية أميركية جوية في إطار الصفقات المقبلة مع القيادات السورية، وتعويض واشنطن خسارتها قاعدة أنجرليك التركية الاستراتيجية، ومحاصرة تركيا وتكبيل يدها هناك.
في الوقت الذي كان الدبلوماسي الأميركي، وليم روباك، يتجول في شمال سورية وشرقها، كان وفد الكونغرس الأميركي يطلع على آخر المواقف التركية، لناحية الملفات المتوترة بين أنقرة
وواشنطن، ويحاول إقناع الأتراك بالتخلي عن صفقة صواريخ إس 400 مع روسيا في مقابل المضي في اتفاقية تسليم مقاتلات إف – 35 لتركيا. وكان وزير الدفاع الإيراني يردّد، عقب لقائه نظيره السوري في دمشق، أن “الأميركيين يبحثون عما يبقيهم شرق الفرات، لتثبيت وجودهم في المنطقة”، في حين كان مجلس سورية الديموقراطية (مسد)، الذراع السياسية لقوات سورية الديموقراطية، يؤكد أن الولايات المتحدة بعثت رسالة طمأنة إلى المجالس والأهالي في هذه المناطق، بأنها ستبقى فترة زمنية غير محدّدة في سورية.
يحاول مقرّبون إلى حزب العدالة والتنمية في تركيا تقديم المشهد على أنه كلما زادت الضغوط الداخلية والخارجية على الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، زاد هو من حملاته وهجماته ضد تركيا، لكن الأخيرة تقول إن أيديها ليست منشغلة بجمع الإجاص، كما يقول المثل التركي، وإن إغماض العينين لا يعني أن الأزمة انتهت. ستواصل واشنطن استغلال الورقة الكردية في سورية، للضغط على تركيا، في ظل تصاعد التوتر بين الجانبين.
أميركا، ومن خلال هذه الأجهزة، تكون قد تمكّنت من رصد تحرّك الطائرات الورقية، أو اللعب الهوائية المسيرة التي يملكها ما تبقى من “داعش”، لكنها في الأساس ستتمكّن من المراقبة الجوية لجغرافيا تشمل جنوب تركيا ومناطق شمال سورية والعراق وإيران والساحل السوري، حيث يتزايد النفوذ الروسي، وبالتالي متابعة تحرّك الطائرات التركية والروسية والإيرانية والسورية والعراقية، وعلى مسافة مئات الكيلومترات في المنطقة. المشكلة الكبرى الآن هي ليست في إنشاء هذه الأجهزة وتثبيتها فوق الأراضي السورية بصورةٍ غير شرعية فقط، بل إسنادها بالقدرات العسكرية الدفاعية – الهجومية، للرد على أية محاولة اقتراب من الأجواء التي تحدّدها هي مناطق محظورة لحماية شركائها المحليين، ومصادر الطاقة السورية الواقعة تحت نفوذها.
كيف ستردّ أنقرة وموسكو وطهران ودمشق؟