تتحول منطقة إدلب السورية باطراد إلى ما يمكن أن يكون آخر نقاط الاشتعال وأكثرها دموية في الصراع السوري. وكان الملايين من المدنيين السنيين في أغلبهم، وعشرات الآلاف من مقاتلي قوات المعارضة السورية والجهاديين، قد سعوا إلى الملاذ في المنطقة التي أصبحت تتخذ مظهر محمية تركية بحكم الأمر الواقع، ولو أنها ليست محمية آمنة ومستقرة تماماً.
في الأثناء، يبدو الرئيس الأسد مصمماً على استعادة المنطقة، ويقال أنه يواصل الاستعدادات العسكرية لشن هجومه عليها.
لدى تركيا 12 موقعاً عسكرياً في محافظة إدلب بموجب اتفاق مع روسيا وإيران تم التوصل إليه في العام الماضي، حول إنشاء “مناطق لخفض التصعيد” في المنطقة. وتحتل القوات التركية مواقع بين قوات المعارضة السورية والجيش السوري.
مع ذلك، تتواصل استعدادات الجهات المتحاربة للمعركة المتوقعة، وهو ما دفع أنقرة إلى فورة من الدبلوماسية الكثيفة مع موسكو على مدار الأسابيع الماضية، من أجل منع انطلاق عملية ينفذها الجيش السوري المدعوم من روسيا في إدلب.
وتبدو أنقرة وموسكو عازمتين على تجنب إلحاق الضرر بعلاقاتهما المتنامية بسبب هذه القضية، لكن التوصل إلى اتفاق حول إدلب ما يزال مراوغاً حتى الآن. وكان هذا واضحاً خلال زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، إلى أنقرة في 14 آب (أغسطس).
وخلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو، قال لافروف إن الاتفاق على مناطق خفض التصعيد لم يكن يغطي المجموعات الجهادية، مثل جبهة النصرة، التي تظل هدفاً مشروعاً. وتستخدم روسيا هذا التصنيف للدلالة على الجماعات الرئيسية التي تستهدفها في إدلب، حتى على الرغم من انقسام جبهة النصرة التي يعمل أقوى فصائلها الآن تحت اسم “هيئة تحرير الشام”.
وقال لافروف في المؤتمر: “هناك عشرات الآلاف من الإرهابيين المتطرفين في إدلب، والذين يعتَدون على الجيش السوري ويشنون هجمات بالطائرات من دون طيار على قاعدة حميميم المجاورة. للنظام السوري الحق في الرد على هذه الأفعال… و(لروسيا) الحق في مساعدة الجيش السوري في محاربة الإرهاب”.
ومن جانبه، اعترف جاويش أوغلو بأن الجهاديين دخلوا إدلب، لكنه كان حذراً أيضاً في رده على لافروف. وقال: “قصف كل إدلب، قصف المستشفيات، والمدارس والمدنيين بسبب وجود إرهابيين هناك، سوف يشكل مذبحة وسيخلق أزمة خطيرة. وبعبارات أخرى، سوف يكون كارثة”.
مع ذلك، أكد كل من الوزيرين مجدداً عزم بلديهما على مواصلة العمل عن كثب لحل المشكلة. وقد اشترى هذا التعاون الوقت لأنقرة من خلال تأجيل العملية العسكرية ضد إدلب حتى الآن. ومع ذلك، تشير استعدادات الجيش السوري والتصريحات الصادرة عن موسكو إلى أن هذا الوقت ربما شرع في النفاد.
وكان شعور تركيا بالخطر واضحاً في الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الدفاع، خلوصي أكار، ورئيس المخابرات التركية، هاكان فيدان، لموسكو في 17 آب (أغسطس)، بعد بضعة أيام من زيارة لافروف لأنقرة.
ومن جانبه، كان جاويش أوغلو في موسكو يوم 24 آب (أغسطس)؛ حيث انضم إلى أكار وفيدان اللذين كانا قد وصلا العاصمة الروسية في وقت سابق لإجراء جولة ثانية من المحادثات مع نظرائهما الروس حول إدلب.
وخلال مؤتمره الصحفي في موسكو، أشار جاويش أوغلو للمرة الأولى إلى روسيا على أنها “شريك تركيا الاستراتيجي”، وهو ما فهمه الكثيرون على أنه رسالة خفية إلى موسكو، والتي تفيد بأن أنقرة تتوقع من موسكو أن تتعامل معها في إدلب بطريقة تتناسب مع هذه الشراكة. كما أكد بوتين، الذي استقبل جاويش أوغلو في موسكو، على أهمية تعميق العلاقات مع تركيا.
ولكن، وعلى الرغم من هذه المجاملات الدبلوماسية، يبقى من غير الواضح ما إذا كان قم تم التوصل إلى ترتيبات حقيقية -إذا كان ثمة ترتيبات- حول إدلب. وتشير كل الدلائل إلى أن موسكو تتوقع من تركيا أن تنقضَّ على الجماعات المتشددة، مثل هيئة تحرير الشام، إذا كانت تريد أن تمنع شن مثل هذه العملية في المنطقة.
نقلاً عن مصادر غير محددة في وزارة الخارجية الروسية، ذكرت صحيفة “حريت” اليومية التركية أن موسكو ستزود أنقرة بإحداثيات مواقع هيئة تحرير الشام والجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في إدلب.
وكتبت الصحيفة: “تعتقد روسيا بأنه سيتعين على الجيش التركي، بعد تقديم هذه الإحداثيات، أن يقوم مع قوات المعارضة المعتدلة التي تدعمها تركيا بتحييد الجماعات المتطرفة”.
لكن أنقرة لم تعرض أي مؤشرات على أنها مستعدة للتحرك في هذا الاتجاه، وهي تريد بوضوح أن تتجنب التورط في حرب مع الجماعات الجهادية.
ووفقاً لكاتب صحيفة “حريت” سيدات إرغِن، فإن الصعوبة الأساسية هي أن هيئة تحرير الشام أصبحت واحدة من أكثر اللاعبين نفوذاً في كامل محافظة إدلب.
وقال إرغن في مقالته: “لن يكون من الممكن وضع مشكلة إدلب على الطريق نحو الحل من دون التغلب على مشكلة هيئة تحرير الشام”. وأكد على أن هيئة تحرير الشام والجماعات المماثلة تعهدت بمواصلة القتال ضد النظام السوري وروسيا.
ووفقاً لتقارير صحفية تركية، فإن تركيا تخطط لضم مقاتلي المعارضة غير المدرجين على قوائم الأمم المتحدة كجماعات إرهابية في منظمة-مظلة واحدة، والتي ستتفاوض بعد ذلك مع النظام من خلال وساطات روسية وإيرانية.
لكن المشكلة في هذا هي أن لدى النظام السوري وروسيا تعريفا فضفاضا جداً لـ”الجماعات الإرهابية”، ومن المرجح أن يستمر خلافهما مع أنقرة حول مَن هو الإرهابي ومَن هو الذي ليس كذلك.
على أي حال، ما من شيء يضمن أن تذعن الجماعات التي تدعمها تركيا للمطالب التركية، بالنظر إلى أنها تحارب في نهاية المطاف من أجل البقاء على قيد الحياة في سورية.
في الأثناء، من غير المرجح في ظل الظروف الحالية أن يُستجاب لطلب تركيا بأن يتم إعلان قسم كبير من إدلب ملاذاً آمناً للاجئين، والذي سيستخدم أيضاً لاستيعاب ما يقدر بنحو 3.5 ملايين لاجئ سوري في تركيا.
يترك هذا الوضع تركيا أيضاً مع احتمال مواجهة فيضان جديد من اللاجئين -ما لا يقل عن 250.000، وفقاً لمصادر الأمم المتحدة- في حال تم شن عملية ضد إدلب.
يعتقد محمد أسيت، من “ييني-سافاك” المؤيدة للحكومة أن قرار إطلاق مثل هذه العملية سوف يعتمد في النهاية على روسيا، وليس على نظام الأسد. وكتب أسيت: “بغض النظر عن طموحات الأسد، فهو في التحليل الأخير قرار توصلت إليه موسكو… وسوف يكون ذلك مهماً”.
ويتفق الكثيرون مع رأيه، وهو السبب في أن الأنظار تتركز الآن على قمة 7 أيلول (سبتمبر) المقرر عقدها في طهران بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والرئيس الإيراني حسن روحاني.
ومع ذلك، سوف تكون تركيا هي الحلقة الضعيفة في طهران، بما أن كلاً من روسيا وإيران يحرصان على رؤية إدلب وقد خلت من كافة العناصر الجهادية، والمنطقة وقد عادت إلى قبضة النظام.
يعتقد العميد المتقاعد نعيم بابور أوغلو أنه لن يكون أمام تركيا خيار سوى الخضوع للضغط من روسيا وإيران. وقال بابور أوغلو للمونيتور: “تريد روسيا أن تفتح ممراً في جنوب إدلب لإخلاء المدنيين قبل أن شن عملية ضد المنطقة، والتي يُرجح أن تجري قبل الشتاء”.
وأضاف: “سوف يكون دور تركيا بعد العملية هو ضمان عدم تسلل عناصر هيئة تحرير الشام والجماعات المماثلة إلى المناطق التي تسيطر عليها تركيا في شمال سورية”.
ووفقاً لبابور أوغلو، سوف يُتوقع من تركيا أيضاً أن تقوم بنزع سلاح عناصر المعارضة التي تدعمها، حتى لا تشكل تهديداً للقوات الروسية وقوات النظام في المستقبل.
ويستشرف بابور أوغلو وجود صعوبات على هذا الصعيد: “لأن مثل هذه الخطوة يمكن أن تدفع المرتزقة في الجماعات التي تدعمها تركيا إلى تغيير الولاءات بسرعة والانتقال إلى جماعات أكثر تطرفاً”.
وأضاف بابور أوغلو أن على أنقرة أن تفكر استراتيجياً، وليس تكتيكياً، عندما تدرس خياراتها في إدلب. وأضاف: “تقوم الولايات المتحدة بتعزيز قبضتها على مناطق شرق نهر الفرات، حيث يشكل تواجد وحدات حماية الشعب التهديد الرئيسي لتركيا. وإذا نفذت تركيا عملية في تلك الأجزاء، على الرغم من المعارضة الأميركية، فإنها ستحتاج إلى دعم روسيا وإيران والنظام السوري”.
هذا هو السبب في أن على أنقرة أن لا تضيع المزيد من الوقت وأن تؤسس علاقات مع دمشق، كما يؤكد بابور أوغلو.
ومع ذلك، يشير الوضع المتطور في إدلب إلى أن هذه المنطقة ستكون نقطة الاشتعال الرئيسية في سورية في الأسابيع والأشهر المقبلة -والتي يجب أن تبقي أنقرة تركيزها منصباً عليها.
بالنظر إلى الصورة الكبيرة، ربما تكون تركيا قد وضعت نفسها في زاوية في إدلب بعدم إيلاء ما يكفي من الانتباه للحضور الجهادي المتنامي هناك، وبالتركيز فقط على محاولة كبح تطلعات الأكراد السوريين.
أما كيف تستخلص أنقرة نفسها من الوضع، فهو ما سيظهِر أيضاً ما إذا كانت روسيا هي “شريك تركيا الاستراتيجي” حقاً.
سميح أيدِز
الغد