عن كونفيدرالية أبومازن

عن كونفيدرالية أبومازن

التقيت قبل مدة القيادي الفلسطيني نبيل عمرو. الرجل ينتمي إلى حركة فتح تقلد مناصب دبلوماسية وتشريعية وأخرى وزارية في حكومات السلطة، اختلف وتواءم مع قياداتها، وواكب عن كثب ملفات التفاوض المضني مع إسرائيل منذ تلك الموقعة في أوسلو عام 1993. سألته عما في جعبة السلطة من معطيات حول صفقة القرن. لم يكشف عمرو عن معلومات خاصة، لكنه أطلق خلاصة يختلط فيها التأمل بالتحليل.

يرى نبيل عمرو أن كل الصفقات التي عرفها المسار الفلسطيني كانت تُعلن ثم يُعمل على تنفيذها أو تعديلها أو ربما رفضها، إلا صفقة القرن، فهي سياق يُنفذ مرحلة بعد أخرى قبل أن تُعلن.

وبغض النظر عن وجاهة هذه النظرية من عدمها، فإن سمة الغموض التي تواكب الصفقة وغياب معالم لها تصدر عن أصحابها في واشنطن، تطلق العنان لاجتهادات وتفسيرات وفتاوى بدت أنها تُدرِج كل تطور وتفصيل يطال الحالة الفلسطينية داخل تلك الصفقة، والتي قد نكتشف يوما أنها واحدة من معارك الغبار التي عرفتها “القضية” منذ منتصف القرن الماضي.

ضمن فرضيات الصفقة العتيدة يندرج قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، ووقف مساعدات مالية للأراضي الفلسطينية، كما توقف واشنطن عن تمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، كما بحث تهدئة طويلة الأمد في قطاع غزة. واللائحة هنا تطول، وقد نُراكم داخلها كل موقف وتصريح وقرار وتحوّل يصدر من هذه العاصمة أو تلك أو من قبل هذا المسؤول الفلسطيني أو ذاك. فهل “كونفيدرالية أبومازن” هي أيضا من عدّة الشغل للتعامل مع صفقة ترامب العجيبة.

والكونفيدرالية تقليعة تم تداولها من ضمن تقليعات كثيرة ظهرت واختفت وفق المواسم وتبعا للضرورات. ولم تتجاوز فكرة الكونفيدرالية مستوى بالونات الاختبار أو الابتزاز الهامشي المتعدد الأغراض، على الرغم من كونها قد تكون، نظريا، حلا ملائما أو يجدر البحث به.

حتى أن الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبوردينة، أوضح في بيان صحافي “إن فكرة الكونفيدرالية موجودة على جدول أعمال القيادة الفلسطينية منذ العام 1984، وإن موقف القيادة منذ ذلك الحين وإلى الآن يؤكد أن حلّ الدولتين هو المدخل للعلاقة الخاصة مع الأردن”.

بمعنى أوضح أن الأمر خيار مطروح وأن الغاية قد تبرر الوسيلة، بما في ذلك عدم استبعاد شكل من أشكال الكونفيدرالية إذا ما أراد أصحاب الصفقة الكبرى البحث بها. لكن أن يعيد الرئيس الفلسطيني محمود عباس طرحها مجددا، فذلك “أرنب” يخرجه من قبعة الساحر قد يكون ردا على تطورات تقلقه في قطاع غزة.

يكشف أبومازن أن اقتراح الكونفيدرالية مع الأردن اقتراح أميركي قدمه مبعوثو الصفقة من واشنطن، وأنه اشترط أن تكون إسرائيل جزءا من هذه الكونفيدرالية التي ستصبح وفق ذلك ثلاثية الأبعاد، وربما المرامي.

يقول الرجل إن خطة كونفيدرالية مع الأردن عُرضت عليه، خلال محادثات أجراها مع مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، جاريد كوشنر، ومبعوث الرئيس الخاص إلى الشرق الأوسط جيسون غرينبلات. ويضيف أنه اشترط إسرائيل ضلعا ثالثا في تلك الكونفيدرالية ليقبل بها. فلماذا بقيت الفكرة المستحدثة طيّ الكتمان في رام الله، كما في واشنطن وعمّان وتل أبيب؟

نعرف أن الرجل أطلق قطيعة مع واشنطن منذ قرار الأخيرة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأن لا تواصل مذاك مع رُسل الصفقة الأميركيين. والظاهر أن أمر الكونفيدرالية واقتراحها كان عرضيا حين كان موفدو البيت الأبيض يزورون المقاطعة في رام الله على نحو لم يستدع الجهر بموقف فلسطيني رسمي آنذاك. غير أن ضرورة عاجلة هذه الأيام على ما يبدو، استدعت نبش كونفيدرالية المبعوثين الأميركيين، والتلويح بها خيارا قد يُعيد الحرارة إلى خطوط التواصل المقطوعة بين السلطة والإدارة الأميركية.

قد توحي الكونفيدرالية الفلسطينية الأردنية الإسرائيلية أن ذلك يؤسس لكينونة سياسية فلسطينية في الضفة الغربية تكون منفصلة عن كينونة سياسية محتملة في قطاع غزة. وقد تشبه كونفيدرالية أبومازن في الجنوح باتجاه الخيار الأردني ما يُحكَى عن جنوح آخر يخطط لقطاع غزة باتجاه مصر. وعلى ذلك فإن الأعراض الضبابية في الضفة والقطاع توحي بسقوط الدولة الفلسطينية المستقلة، كما توحي أيضا بسقوط الوحدة السياسية للضفة الغربية وقطاع غزة.

يرمي أبومازن الكرة برشاقة نحو ملاعب أخرى. تعبّر الكونفيدرالية مع الأردن عن خيار قد يزيد المسافة بين رام الله والقاهرة. وتعبّر الكونفيدرالية مع إسرائيل عن تكتيك يهدف إلى استعادة دور السلطة بصفتها الشريك الناجع الوحيد لإنتاج تسوية وازنة، بعد أن بدا أن حركة حماس باتت جاهزة وتوّاقة لتسويات تاريخية مع إسرائيل.

وفيما أفرجت مداولات القاهرة مؤخرا عن استحالة إنتاج مصالحة بين فتح وحماس، فإن مناورة عباس تأخذ علما بهذا الواقع الذي بات بنيويا، وتذهب بالمسألة الفلسطينية نحو أبعاد جديدة تخرج عن القواعد الكلاسيكية المعروفة.

يعرف أبومازن أن أمر الكونفيدرالية ليس يسيرا وأن موقفه لا يعدو كونه رميَ حجر في مياه راكدة. عيّن الرجل شركاءه في هذه الكونفيدرالية بما يستدرج عُقدا ثلاثية الرؤوس، وبما يُبعد عنه شرب الكأس المر وحده.

لا يقوى الأردن في هذه الظروف الحرجة داخليا وخارجيا على الانخراط في عملية غير مأمونة العواقب. سارعت عمّان إلى رفض مشروع عباس، لكن ذلك الرفض ليس قطعيا، ذلك، وحسب المتحدثة باسم الحكومة الأردنية جمانة غنيمات، إن “الكونفيدرالية مرفوضة إلا بعد وجود حل نهائي يقوم على حل الدولتين تشمل دولة فلسطينية على حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية، وهي ثوابت أردنية وموقف راسخ غير قابل للنقاش”.

لا يضيرُ رام الله موقف الأردن من كونفيدرالية عباس. يعيد الأردن المشكلة إلى أصلها الحقيقي. أن تكون الكونفيدرالية مشروطة بالدولة وحدودها وعاصمتها وفق وثائق جامعة الدول العربية ومبادرتها الشهيرة للسلام لعام 2002، فذلك يعني أن أمام واشنطن التي “انتشلت” الكونفيدرالية من جديد وفق تصريحات عباس، معابر جديدة للحل، وأن استكشاف تلك المعابر يجب أن يجري مع إسرائيل التي عليها أن تدفع “ثمنا كبيرا” مقابل إخراج القدس من جدول التفاوض، وفق ما أعلنه ترامب في 9 أغسطس الماضي.

تؤكد مصادر إسرائيلية، غير رسمية، أنباء الاقتراح الكونفيدرالي، وأنه عُرض أيضا على العاهل الأردني، وأنه تضمن ضمّ الضفة الغربية دون القدس إلى رعاية أمنية أردنية دون تفاصيل حول العلاقة السياسية بين الكيانيْن ودستورها. وفي ما تلمّحُ تلك المصادر إليه ما يلفت باتجاه سيناريوهات أخرى يتم تداولها حول قطاع غزة وإمكانية تولي مصر رعاية أمنية لشؤونه.

غير أن ما يهم أبومازن في ما صرح به هو قلب الطاولة وقلب الأولويات واستعادة زمام المبادرة وتقويض مشاريع ازدحمت في الأسابيع الأخيرة تخفي جبل جليد أخرجت “تهدئة” غزة رأسه من تحت المياه. فإذا ما كانت الكونفيدرالية منذ الثمانينات مجرد بالون اختبار فهي في عرف الرئيس الفلسطيني تبقى كذلك.

محمد قواص

العرب