الدولة البوليسية، إشكاليات داخلية ،إشكاليات خارجية
فتحت الثورات المضادة مساحة مطالب الشعوب العربية على مصراعيها، بعد أن اقتصرت ثورات العام 2011 على مطالب الحرية والعدالة والكرامة. كان أمل الشعوب العربية الثائرة في 2011 هو محاربة الفساد وبناء مؤسسات ديمقراطية يمكن محاسبتها، وعلى أساس أنه ستتم معالجة ملفات أخرى على مدى زمني ممتد وبشكل تدريجي.
ولم تكن من أهداف تلك الثورات الانتقام من كل من عمل مع الأنظمة القديمة، وإنما فتحت الباب أمام الكثيرين لدعم الثورة، أو للتوبة والاستقالة من العمل العام، كما لم تفتح الملفات المتعددة للسياسات الخارجية للأنظمة القديمة والتي قامت على التبعية للخارج والاستضعاف وعدم استخدام عوامل القوة المتاحة.
الدولة البوليسية
لكن ما حدث أن خصوم الثورات العربية في الداخل والخارج تكالبوا عليها، نتيجة أسباب كثيرة أهمها انقسام صفوف القوى المحسوبة على الثورة، وعدم امتلاكها رؤى وبرامج سياسية محددة، فضلا عن السياق الإقليمي المعادي للديمقراطية، وازدواجية الغرب المعتادة، حيث عادت القوى الدولية إلى دعم مصالحها التجارية والعسكرية على حساب الديمقراطية التي ظلت مجرد عبارات بلاغية لا تعني شيئا. كما أُدخلت المنطقة في حرب على الإرهاب الأمر الذي أعلى القبضة الأمنية والقمعية على حساب الحريات والحقوق.
مع تكتل خصوم الثورة في الداخل والخارج، نجح هؤلاء في إجهاض الثورات وإدخال المنطقة إلى عهد جديد تسوده حالتان لا ثالث لهما. الأولى الدولة البوليسية القمعية التي تسيطر فيها عصابة محدودة العدد على السلطة والثروة والإعلام، والتي لا مكان فيها حتى للصمت والوقوف على الحياد، فالمطلوب من الجميع إما دعم الدولة البوليسية أو الذهاب إلى المعتقلات أو المنافي أو القبور. والثانية الصراعات والحروب الأهلية، حيث هناك أيضا عصابات محدودة العدد تحتكر السلاح والمال مع فتح المجال أمام تدخلات إقليمية ودولية سافرة.
“نجحت الثورات المضادة بإجهاض الثورات وإدخال المنطقة في عهد جديد تسوده حالتان لا ثالث لهما. الأولى الدولة البوليسية القمعية التي تسيطر فيها عصابة محدودة العدد على السلطة والثروة والإعلام، والتي لا مكان فيها حتى للصمت.والثانية الصراعات والحروب الأهلية، حيث هناك أيضا عصابات محدودة العدد تحتكر السلاح والمال”
وفي الحالتين، صارت الدول العربية مساحة مفتوحة لممارسة الهيمنة الخارجية إنْ من خلال القروض والمساعدات والتبعية المفضوحة للإسرائيليين والغربيين، أو عبر التواجد العسكري المباشر لقوى إقليمية ودولية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العرب الحديث.
ضحايا هذه الأوضاع شملت مئات الآلاف من الضحايا في سوريا وعشرات الآلاف في اليمن وليبيا والآلاف في مصر وتونس، هذا بجانب عشرات الآلاف الذين زُج بهم في المعتقلات أو أرسلوا إلى المنافي.
وشملت قائمة التداعيات السلبية أيضا المقامرة بمستقبل نظم الحكم العربية، فقد تم ترسيخ أسطورة أن الاستقرار أهم من الحرية، وتم تجريم كل من يدعو إلى الحرية والتحرر وربطه بأجندات خارجية، بينما هناك تحالفات قوية معلنة بين النظم القائمة وبين القوى الكبرى. كما تم تجريم الديمقراطية ذاتها كنظام للحكم وتحميلها مسؤولية ما اقترفته النظم القديمة وقوى الثورة المضادة وسياسات القوى الإقليمية والدولية. حدث هذا وكأن البلاد العربية قد عرفت الديمقراطية في الأساس خلال العامين 2011 و2012.
أدت الثورات المضادة إلى اتساع مطالب الشعوب العربية، فقد صارت المعركة واضحة المعالم والأبعاد، وأي موجات قادمة للثورات العربية أو حركات الإصلاح السياسي لا يمكن أن تتجاهل عددا من الإشكاليات المتداخلة.
إشكاليات داخلية
ثمة أربع إشكاليات داخلية على الأقل، أولها إشكالية تتصل بكيفية تمكين الشعوب والمجتمعات والتوقف عن إقصائها ومصادرة دورها في المجال العام. سيكون من أولويات أي ثورة شعبية أو حركة إصلاحية تمكين المجتمع وتبني القيم والمؤسسات والآليات الكفيلة بأن يكون الإنسان هو محور أي نظام اجتماعي وسياسي، وأن تكون المجتمعات وجماعاتها الوسيطة هي رافعة أي عملية تنمية والبرامج التي تستهدف إقامة وترسيخ المساواة والعدالة الجنائية والاجتماعية. وسيكون من الأهمية القصوى وضع ضمانات لاستقلال النظام التعليمي والجامعات ومؤسسات البحث، وكذا مؤسسات الإعلام والثقافة، وذلك من النواحي المالية والإدارية، ورفع يد أجهزة الأمن والمخابرات عنها.
وهناك إشكالية بين الأمن والحرية وبين المدنيين والعسكريين، إذ تتضمن مطالب الشعوب الآن مطالب بإقرار دولة المؤسسات المدنية الديمقراطية المنتخبة التي يمكن مراقبتها ومحاسبتها شعبيا وأمام قضاء مستقل وأجهزة رقابة مستقلة، مع الحفاظ في ذات الوقت على وحدة الجيوش ورفع مهنيتها وتقوية نظم تسليحها وتدريبها وضمان عدم انقلابها على أي سلطة مدنية منتخبة أو تحولها إلى ممارسة التجارة أو التدخل في عمل المؤسسات المدنية والمجتمعية.
وثمة إشكالية تتصل بازدواجية النخب المعبرة عن تيارات سياسية مختلفة في النظر إلى مسألة الحريات والديمقراطية واستخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية. الآن تحتاج بلداننا إلى التركيز على بناء دولة المواطنة وحكم القانون والمحاسبة السياسية التي تضمن العدالة والمساواة للجميع دون تمييز، وتحاسب -عبر نظام عدالة مستقل- كل من يشارك في التآمر على المؤسسات المدنية المنتخبة، أو يحرض على هدمها، أو يمارس العنف السياسي أو يحض عليه.
وهناك إشكالية حول موضع الدين في المجال العام، فمطالب الشعوب تتضمن أهمية الحفاظ على الدين ودوره في المجتمع كمعين للقيم والمبادئ ومصدر للمرجعية العليا للمجتمعات، مع وضع ضمانات لاستقلاله عن السلطة التنفيذية، وضمانات لمنع استخدامه من أجل الحصول على مكاسب حزبية ضيقة أو في التمييز أو التحريض ضد الآخر.
إشكاليات خارجية
“عمليات التغيير التي أشعلتها ثورات 2011 عمليات كبرى، تمس القضايا المؤجلة منذ نشأة النظام العربي ودولة ما بعد الاستقلال وشعاراتها في الاستقلال والديمقراطية والتنمية والوحدة. وتمس أيضا ما استجد من إشكاليات وقضايا يبدو أنه لا مفر من وضعها في أي برامج وطنية سياسية”
على المستوى الخارجي، ثمة أربع إشكاليات أخرى، الأولى إشكالية حول الإرث التاريخي للدول القُطْرية العربية والدور الخارجي في نشأتها، وأثر ذلك في طبيعة أنظمة الحكم وقابليتها للتغيير نحو الديمقراطية. لا يمكن الآن تجاهل هذا البعد في ظل تشابه مطالب الشعوب العربية وعبورها حدود سايكس بيكو.
وهناك إشكالية الهيمنة الغربية التي تؤطر العلاقات الغربية العربية، وتقوم على معادلة حماية النظم المطلقة في مقابل ضمان المصالح الغربية. لم يعد من الممكن تجاوز حقيقة أن القوى الغربية تنظر للمنطقة كساحة مفتوحة لممارسة الهيمنة بينما تقف أمام أي مطالب من أجل وحدة المنطقة أو انتقال حكوماتها إلى الديمقراطية. ولم يعد ممكنا الاستمرار في استخدام فزاعة الحرب على الإرهاب من قبل الأنظمة العربية والغربية لقمع الحريات، وترسيخ الاستبداد والتبعية، ووضع كل المعارضين في سلة واحدة، وتهديد الشعوب بالحروب والصراعات وكأنها قدر محتوم.
وثمة إشكالية تخص الإقليم المعادي للديمقراطية، هناك مخاوف من جُل القوى الإقليمية في المنطقة من الديمقراطية ومن نتائجها، كيف يمكن إذن أن تكون الديمقراطية مصلحة إقليمية كما حدث في مناطق أخرى من العالم؟ ولماذا تغيب دولة المواطنة والحقوق والمؤسسات الديمقراطية في أجندات المبعوثين الدوليين وفي الحلول الإقليمية والدولية التي تُقترح للصراعات التي تشهدها المنطقة؟
وأخيرا هناك إشكالية تتصل بهيمنة النموذج الغربي ومحاولات دوائر سياسية وبحثية غربية تصدير نموذج محدد للديمقراطية، وما يرتبط بهذا من توترات داخل التيارات السياسية المختلفة، ومن تشكك النخب والجماهير العربية في أي دور خارجي لصالح الديمقراطية.
إن عمليات التغيير التي أشعلتها ثورات 2011 عمليات كبرى، تمس القضايا المؤجلة منذ نشأة النظام العربي ودولة ما بعد الاستقلال وشعاراتها في الاستقلال والديمقراطية والتنمية والوحدة. وتمس أيضا ما استجد من إشكاليات وقضايا يبدو أنه لا مفر من وضعها في أي برامج وطنية سياسية.
عبد الفتاح ماضي
المصدر : الجزيرة