استثمرت الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من الوقت والجهد في العراق على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، ومع ذلك ظلت العملية السياسية في العراق متعثرة، حيث أن الضرر الذي لحق بتلك العملية نتيجة القصور في تطبيق مبادئ الديمقراطية، بدأ يتجلى في كل استحقاق انتخابي يُجري في العراق. ومما زاد الأمر، تعقيدا كان الدور الكبير الذي لعبته الأحزاب الإسلامية الموالية لإيران على الساحة العراقية.
ونظرا لان تلك الأحزاب تؤمن بأولوية القرآن في الحكم، كما تؤمن بمبدأ آية الله روح الله خميني (ولاية الفقيه)، فإن أهدافها في المقام الأول هي دعم النفوذ الإقليمي الايران، بدلا من دعم الاستقرار الداخلي والديمقراطية في البلاد. وتنظر تلك الأحزاب إلى الديمقراطية ومبادئها بريبة شديدة خاصة تلك التي تتعلق بالمرأة أو حماية الطفولة أو حقوق الإنسان والمواطنة. وإضافة إلى تلك العلاقات المعقدة، أدت السياسة التي اعتمدها الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس وميليشياته العراقية، إلى خضوع تلك الأحزاب للإملاءات الإيرانية.
وعلى عكس النفوذ الإيراني المتزايد في العراق وتدخلاتها الواضحة والمستمرة في الشئون السياسية في البلاد، بات الاهتمام الأمريكي بمستقبل العراق غير واضح بالنسبة للعديد من المراقبين المحليين. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد صرحت بأن الحد من النفوذ الإقليمي لإيران هو أحد أهم أهداف سياستها الخارجية، إلا أن تلك الجهود قد أصبحت معقدا نتيجة تاريخها في العراق وسياستها الخارجية هناك. ومع إبرام إدارة أوباما للاتفاق النووي مع إيران وانسحاب القوات العسكرية الأمريكية من العراق، فسرت العديد من الجماعات المناوئة لإيران الصمت الأمريكي على انه موافقة ضمنية لإخضاع العراق لأهواء إيران التوسعية. كما يُظهر إدراج تحالف فتح في الائتلاف السياسي المهيمن، سياسة الصمت التي كانت تعتمدها إدارة أوباما نحو تصرفات سليماني في البلاد، واستمرار الرسائل المختلطة من قبل الإدارة الحالية.
إن ما يعانيه العراق اليوم من أزمات سياسية واقتصادية من تراجع السيادة العراقية والغياب الفعلي لمبدأ الفصل بين السلطات وتفشي الفساد الإداري والمالي كان بالطبع نتيجة حتمية للسياسة الأمريكية الفاشلة التي تستغلها إيران لتوسيع نفوذها ليس فقط في العراق بل في المنطقة بأكملها. ولم تبدى الأحزاب العراقية المدعومة من قبل إيران أي اهتمام بالأزمات الطاحنة التي يمر بها العراق حاليا. كما يمثل التدخل الإيراني في الشئون الداخلية للعراق خطرا كبيرا على العملية الديمقراطية هناك، حيث عملت الأحزاب الإسلامية التابعة لإيران على تزوير الانتخابات بشكل ممنهج ليس فقط في المحافظات الشيعية فحسب بل والسنية أيضا والتي تحتوي على عناصر سنية مثقله بالفساد وترتبط بعلاقات مشتركة بسليماني أو اتباعه.
والان، يبدو أن الحكومة العراقية الجديدة التي يتم تشكيلها حاليا ستظل معرضة بشكل خاص للمكائد الإيرانية، خاصة بعد اللقاء الذي تم بين سليماني وعدد من – السياسيين المعروفين بالفساد – من أجل تشكيل كتلة تضم أكثر من مائة عضو، وهو ما يشكل تحديًا واضحًا للسياسيين الذين يتطلعون إلى الحد من النفوذ الإيراني في العراق.
في خلال الأشهر الماضية منذ الانتخابات العراقية، أرسل سليماني رسالة واضحة إلى المسؤولين العراقيين والأميركيين على حد سواء، مفادها أن إيران سيكون لها سيطرة كبيرة على عملية تعيين الوزراء والكتل الانتخابية، خاصة بعد قيامه بتشكيل كتلة معارضة مكونة من 145 عضو في البرلمان بقيادة هادي العامري ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
إن نجاح سليماني الواضح في السيطرة على مقاليد الحكومة العراقية الجديدة يدل ثبات موقف إيران ووضوح سياستها نحو العراق. علاوة على ذلك، وفى ظل الإجراءات الطويلة لتشكيل حكومة عراقية، لا تزال مواقف سليماني الناشطة تتناقض بشكل كبير مع الرسائل المختلطة لمسؤولي وزارة الخارجية الامريكية، بما في ذلك قبول الأخير لنتائج الانتخابات العراقية على الرغم من وجود أدلة على الفساد والتزوير.
ومن المتوقع أيضا أن يؤدى غياب الرؤية الواضحة من قبل المسؤولين الأمريكيين في العراق، إلى الإخفاق في تشكيل حكومة عراقية جديدة ومعتدلة ومتحررة من النفوذ الإيراني المتزايد. إضافة إلى ذلك، فقد العديد من العراقيين الذين اعتمدوا على رؤية الديمقراطية الامريكية واعتماده كنموذج لبلادهم الثقة في السياسة الأمريكيةـ مما دفعهم إلى السقوط في أحضان سليماني. وقد مثل ذلك ضربة مميتة للمستقلين والمعتدلين والديمقراطيين، وضربة للمصالح الأمريكية المستقبلية في العراق.
الحل واضح: يجب على الولايات المتحدة وممثليها في العراق أن يتبنوا مواقف واضحة حول سياستهم في العراقية وأن يدركوا أن تعزيز الشراكة العراقية الأمريكية هو ليس باستثمار أمريكي باتجاه واحد بل بتعاون يضمن الفوائد للدولتين. كما أن الإدارة الأمريكية مطالبة ألا تسمح لموظفيها بتكرار نفس الأليات والسياسات التي اعتمدتها إدارة أوباما في العراق لا سيما أنها لم تعد تعكس الاهتمام المتجدد للولايات المتحدة نحو إيران.
وربما تكون الطريقة الأكثر فعالية والأسرع لاستعادة النفوذ الأمريكي في العراق هي العمل على تفعيل الاتفاقيات العراقية-الامريكية المبرمة. كما يمكن أن تساهم الولايات المتحدة في تحقيق المصالحة بين الطوائف المختلفة في العراق وإعطاء المجتمعات العربية السنية الإحساس بأنها ستكون شريكة في إدارة مستقبل البلاد. وذلك عن طريق توفير موارد إضافية لدعم اللامركزية، والعمل على دعم الجهود الرامية لتجنيد العرب السنة في قوات الأمن العراقية. وأخيرا، يجب أن تعمل الولايات المتحدة على دعم وتطوير الإعلام العراقي وذلك لمواجهة الدعاية الإيرانية الطائفية التي تعمل على بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن الولايات المتحدة هي المسؤولة من جانب واحد عن تطوير العلاقة بينها وبين والعراق، لكن يجب على العراق، من جانبه، أن يعمل على الحفاظ على استقلالية قراره النفطي وذلك بغض النظر عن المؤشرات السوقية والصراعات الإقليمية. إن تعزيز الشراكة العراقية- الأمريكية لن يتحقق فقط من خلال الاستثمار الأميركي في العراق، بل من خلال التعاون المشترك الذي سيؤدي في النهاية إلى تحقيق فوائد اقتصادية واستراتيجية لكلا البلدين.
مثال الألوسي
معهد واشنطن