بدعوةٍ من الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، وبعد سبع سنوات على آخر زيارة له إلى برلين، بحث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مع كبار المسؤولين الألمان سبل فتح صفحة جديدة تكون مقدمة لامتصاص حالة الغضب والتوتر في العلاقات بين بلديهما. وجاءت الزيارة ضمن سياسة الانفتاح مجدّدا على العواصم الأوروبية التي بدأتها أنقرة بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قبل أربعة أشهر، وكانت باتجاه لندن وباريس، وتواصلت مع زيارة ثالثة قام بها أردوغان نحو برلين هذه المرّة، فهل تتحوّل الزيارة إلى فرصة باتجاه التهدئة في العلاقات التركية الألمانية التي تسير فوق رمال متحركة منذ أكثر من عامين؟
يزور أردوغان ألمانيا، وهو يدرك أن هناك أكثر من ألمانيا ينبغي التعامل معها. تستقبله المستشارة ميركل بالترحيب، لكن المعارضة ما زالت تتحدث عن “أزمة اقتصادية تركية تسبب بها أردوغان وحكمه”. يقول الرئيس الألماني، وهو يولم لنظيره التركي أردوغان أن هدف الزيارة هو ليس تطبيع العلاقات، بقدر ما هو محاولة لفتح الطريق أمام بداية جديدة. وهذه صراحة موجعة، لكن المنتصر في النهاية كان أنصار الواقعية في السياسة الألمانية التي تمثل رجال الأعمال وأصحاب المصالح المرتبطين بعلاقات تجارية مع أنقرة، ونخبة سياسية وفكرية تتمسّك بضرورة حماية مسار العلاقات التاريخية بين البلدين التي تأسّست فوق مدماك أزمات القرن لتاسع عشر وتفاهمات السلطان عبد الحميد والإمبراطور فيلهلم الثاني عام 1908 وسنوات الحرب العالمية الأولى، والثمن السياسي والأمني والاقتصادي الذي تحمّله الطرفان وقتها.
أنقرة وبرلين عضوان في حلقة شراكة استراتيجية غربية تجمعهما تحت سقف حلف شمال
“يجدر عدم الإسراع في الحديث عن صفحة جديدة من العلاقات الاستراتيجية بين أنقرة وبرلين”
الأطلسي والمجلس الأوروبي واتفاقيات العضوية التركية في المجموعة الأوروبية، لكن تركيا وألمانيا تعرفان تماما حدود التقارب والانفتاح وأسبابه واستحالة التنازل للآخر عن الموقع والدور في أكثر من بقعة جغرافية، وتمدد وانتشار استراتيجي إقليمي ودولي. ومع ذلك، حتى ولو حاول بعضهم قطع الطريق على هذا التنسيق الثنائي، فهناك من يذكّر بضرورة حمايته حول قواسم مشتركة صغرى لا بد منها.
تنسّق ألمانيا مع تركيا باتجاه عقد قمة رباعية تجمعها مع تركيا وروسيا وفرنسا، لكنها في الوقت نفسه، وبخصوص ملف الأزمة السورية، تجلس جنبا إلى جنب مع أميركا وفرنسا والسعودية ومصر والأردن أمام طاولة أخرى يُراد لها أن تكون بديلة. وسياسة الإدارة الأميركية الجديدة وأسلوبها في التعامل مع ملفات إقليمية كثيرة، كلّها عوامل ساهمت في تسريع قرار دعوة أردوغان لزيارة برلين، في ظل التقاء المواقف والمصالح من هذه الملفات. هناك أيضا قلق ألماني من خسارة تركيا لمصلحة روسيا إقليميا، ومصالح مشتركة بعشرات المليارات، لا يمكن التفريط بها. ألمانيا شريك تجاري كبير لتركيا لا يمكن التفريط به، لكن أنقرة لا تريد أن تراه حليفا لواشنطن على حساب علاقاتهما، خصوصا في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها العلاقات التركية الأميركية.
لم يتمكّن أردوغان من إقناع الألمان بتغيير مواقفهم الكثيرة حياله، لكنه قَبل دعوتهم، وبلاده تعيش أزمتها الاقتصادية التي تقودها أميركا كما يردّد، فألمانيا تخشى أن يؤدّي الإضرار بالاقتصاد التركي، أو بموقع تركيا ودورها الإقليمي في هذه المرحلة، إلى فتح أبواب الجحيم على أوروبا، ما يقود إلى زيادة الأعباء الملقاة على عاتقها، بصفتها قوة الدفع الأهم في الاتحاد الأوروبي سياسيا واقتصاديا.
يعرف أردوغان جيدا تراجع شعبيته، وسط القيادات السياسية الألمانية، لكنه يعرف أيضا أن ألمانيا هي الشريك الاقتصادي الحيوي بالنسبة لتركيا، فحجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ العام الماضي حوالي 43 مليار دولار، وتركيا ترى في ألمانيا بوابة عبورها إلى الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من كل ملفات الخلاف والتباعد، تريد برلين أن تكون هذه الزيارة ناجحة، لسببين رئيسيين: لعب ورقة أكثر من ثلاثة ملايين ألماني من أصل تركي في العلاقات الثنائية، وقناعة أن تركيا ضرورية لأمن أوروبا، وإمدادات الطاقة وقضايا اللاجئين. ويعرف أردوغان، قبل غيره، كذلك أن زيارة يقوم بها إلى برلين، بعد سنوات من التوتر والجفاء، لن تكون كافية، لتمكين أنقرة من الحصول على فرصة العودة إلى الساحة السياسية الأوروبية. وأن دعم برلين لموقف أنقرة في معارضة أي عمل عسكري للنظام السوري وروسيا وإيران ضد إدلب، ومشاركتها في القمة الرباعية المرتقبة بشأن الأزمة السورية بمبادرة تركية، سيكون مشروطا بتحولات كثيرة في المواقف التركية حيالها.
تدرك أنقرة وبرلين أنه حتى، ولو اقتضت مصالحهما الحوار والتنسيق مجدّدا في بعض الملفات الثنائية والإقليمية، فذلك لن يكون كافيا لإزالة أسبابٍ كثيرة للتوتر، والتصعيد في العلاقات. صحيح أن أردوغان يقرع أبواب ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا وتركيا تعاني من أزمة اقتصادية حادّة، لكنه لن يتجاهل تهديدات وزير الخارجية الألماني، زيغمار غبريال، تركيا بسبب مواقفها وسياساتها في مسائل الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان وتحميل القيادة السياسية التركية مسؤولية توتير العلاقات مع حليف الحرب العالمية الأولى، “أنقرة هي في مواجهة العالم بأكمله، صبرنا كثيرا عليكم، ولم يعد في مقدورنا مواصلة علاقاتنا بهذا الشكل”. ولن يتسامح ببساطة مع حكومة ميركل التي دعت إلى تجميد مشروعات تسليح مشتركة ووقف استثماراتها في تركيا.
ولن ينسى الأتراك بسهولة قرار تصويت مجلس النواب الألماني في يونيو/ حزيران 2016 لصالح قبول أحداث عام 1915 في شرق الأناضول أنها حرب إبادة للأرمن، وحظر السلطات الألمانية نقل كلمة الرئيس التركي إلى الجالية التركية في ألمانيا خلال مرحلة لترويج حملة التعديلات الدستورية، ومنح برلين عشراتٍ من المواطنين الأتراك المتهمين بالمشاركة في المحاولة الانقلابية، قبل عامين حق اللجوء السياسي، وأن الألمان لم ينفذوا كثيرا من التزاماتهم ووعودهم المقدمة لتركيا في موضوع اللجوء والهجرة ورفع التأشيرات أمام الأتراك الراغبين بدخول أوروبا.
من السابق لأوانه، في الجانب الألماني أيضا، الحديث عن فتح الأبواب على وسعها أمام أردوغان الذي اتهم برلين منذ 18 شهرا بـ “الممارسات النازية” ردّا على منع برلين
“حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ العام الماضي حوالي 43 مليار دولار”
مهرجانات شعبية داعمة له في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، هذا إلى جانب اتهامات وكالة المخابرات الداخلية الألمانية المخابرات التركية بتنفيذ عمليات سرية واسعة في ألمانيا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، شملت استهدف أتراكٍ معارضين يقيمون في المدن الألمانية. لكن الورقة التي لوح بها أردوغان في برلين، وربما كانت الأهم في إقناع الألمان بتغيير مواقفهم وأسلوبهم حيال أنقرة كانت مشروع تطوير البنى التحتية للسكة الحديد في تركيا، والمتوقع أن تصل كلفته إلى 40 مليار دولار. بقدر ما تعرف أنقرة جيدا أنها غير قادرة على المغامرة بحصة 10% من مجمل القطاع السياحي الذي يملأه الألمان سنوياً.
سيكون التطبيع بطيئا ومرحليا ومتدّرجا، لأن أسباب الخلافات كثيرة وعميقة، وقرار التقارب من جديد لا يعود إلى رغبة تركية ألمانية في المصالحة، بل نتيجة مخاطر تضر بنفوذهما الإقليمي، وتفاهماتٍ قد تكون على حسابهما. الهدف هو ليس مثلا إنهاء الخلافات بقدر ما هو حماية مصالحهما الإقليمية في وجه أي تفاهم أميركي روسي مفاجئ، يتعارض مع مصالحهما الإقليمية.
يجدر عدم الإسراع في الحديث عن صفحة جديدة من العلاقات الاستراتيجية بين أنقرة وبرلين، فأسباب الخلاف والتباعد الكثيرة ما زالت قائمة. لا تريد ألمانيا منافسا إقليميا قويا لها مثل تركيا، تحت سقف المجموعة الأوروبية، وتركيا لا تريد أن تمنح ألمانيا فرصة ملء الفراغ الاستراتيجي الإقليمي المتشكل بسبب التوتر التركي مع أميركا وإسرائيل وعواصم عربية عديدة.
لم تتغير وضعية الكباش التركي الألماني منذ أشهر، حتى ولو رحبت برلين بالمواقف التركية في التعامل مع موضوع إدلب، وظهر احتمال مشاركة ألمانيا في القمة الرباعية المرتقبة التي تعد لها أنقرة بالتنسيق مع الروس والفرنسيين. ومن المحتمل أن يكون إصرار واشنطن على عزلة إيران إقليميا هو بين أسباب التقارب التركي الألماني أيضا بهدف حماية حصصهما في أثناء تقاسم الكعكة الجديدة في المنطقة.
المصالح، مرة أخرى، هي ما قادت أردوغان إلى برلين، ودفعت الألمان إلى أن يتركوا خلافاتٍ كثيرة جانبا، ففي السياسة الخارجية لا يمكن أن تعشق كل من يبتسم لك.
سمير صالحة
العربي الجديد