في وقت سابق من هذا الشهر، أعلن نظام الرئيس السوري بشار الأسد بداية حملته لاستعادة محافظة إدلب –وهي موطن لما يقدر بنحو ثلاثة ملايين نسمة، بمن فيهم ما يقرب من مليون شخص شردوا من أجزاء أخرى من سورية. وعلى الرغم من سنوات من السياسات الفاشلة، ما تزال الولايات المتحدة تمتلك من الأدوات ما يمكنها من تخفيف ما يمكن أن يكون كارثة إنسانية قادمة، والتي سيكون نطاقها أوسع حتى من تلك التي شهدتها حلب.
يتمثل التحدي الأول في إدلب في كونها مستودعا تم فيه تجميع خصوم نظام الأسد من كل أنحاء سورية. وفي السنوات الأخيرة، استعاد الأسد، بدعم روسي وإيراني، مناطق واسعة من البلد، مركزا بشكل أساسي على مناطق خفض التصعيد المختلفة في غرب سورية، والتي كان الهدف منها تجميد القتال بين النظام والمتمردين. وقد انتهت كل حملة إلى إبرام اتفاق يستسلم بموجبه المتمردون، وإنما يُسمح لهم بمرور آمن إلى إدلب. وفي الحملة القادمة، لن يكون هناك مكان يمكن أن يذهبوا إليه، ما يعني أننا سنشهد غالبا قتالاً أكثر قبحاً وحتى الموت، وهو السبب في أن بعض التقارير تتحدث عن أن نظام الأسد يفكر بجدية في استخدام الأسلحة الكيميائية. وهناك واجب أخلاقي على الولايات المتحدة لكي تبذل كل ما في وسعها لوقف أو منع حدوث أسوأ النتائج.
كما يمكن أن تسفر المعركة أيضاً عن تدفق أعداد هائلة من اللاجئين إلى تركيا. وفي العام 2016، أبرمت تركيا والاتحاد الأوروبي اتفاقاً وافقت بموجبه تركيا على استضافة معظم اللاجئين السوريين في مقابل دعم مالي من أوروبا، وهو ما أعاق الهجرة الجماعية إلى أوروبا، والتي كانت تخلق الكثير من التوترات السياسية وعدم الاستقرار. لكن تدفقاً هائلاً جديداً للاجئين يمكن أن يدفع تركيا إلى مراجعة موقفها، فيما ينطوي على إمكانية إلقاء أوروبا مرة أخرى إلى حضن الفوضى.
ومما يزيد الأمور تعقيداً، كما عبر عن ذلك مبعوث الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، بريت ماكغورك، هو أن إدلب أصبحت “أكبر ملاذا لتنظيم القاعدة منذ 11/9”. والتحدي الآن هو أن القاعدة ممتزجة بجماعات أقل أيديولوجية من المعارضة التي تناهض الأسد، وستكون محاولة فصل هذه الجماعات والقضاء على القاعدة وحدها مهمة بالغة الصعوبة. لكن الجواب على هذه المعضلة ليس هجوماً مدمراً يشنه الأسد، والذي يمكن أن يفضي إلى أسوأ أزمة إنسانية مفردة في حرب مريعة مسبقاً.
سوف يكون من شأن عدم القيام بشيء في إدلب تقويض ما يقول كبار المسؤولين الأميركيين الآن أنه السياسة الأميركية. وتسعى الولايات المتحدة إلى إحياء وتطبيق عملية جنيف السياسية، وهي سلسلة من محادثات السلام الرامية إلى إنهاء الحرب. ويصر الأميركيون على أن الأسد يجب أن يخرج في عملية انتقال للسلطة، وأن على إيران وقواتها الوكيلة أن تغادر البلد قبل أن تنسحب القوات الأميركية من شمال شرق سورية. وربما تكون هذه الأهداف بعيدة المنال، ولكن، إذا وقفت الولايات المتحدة على الجوانب وتركت الأسد وحلفاءه الروس والإيرانيين يزحفون إلى حلب، مشردين مئات الآلاف من الناس على الأقل، وربما مستخدمين الأسلحة الكيميائية، فإن ذلك سيضعف موقف الولايات المتحدة وقدرتها على التأثير في الوضع النهائي للصراع السوري فحسب.
الأخبار الجيدة هي أن الولايات المتحدة تمتلك بعض النفوذ الذي يمكنها أن تستخدمه. وفي الحقيقة، سوف يكون القتال في إدلب، إذا اندلع، أكثر قبحاً بكثير بالنسبة للأسد وحلفائه من الهجمات الأصغر نطاقاً بكثير في السنوات القليلة الأخيرة. وإذا توفر بديل عملي وقابل للتطبيق، فإنهم قد يختارون عدم تحمل هذه التكلفة. كما كان الروس يعملون بجد أيضاً لإعادة تأهيل صورة الأسد وتطبيعه بحيث تشرع الدول الأخرى في الاستثمار في إعادة إعمار سورية، حيث لا يمتلك الروس القدرة على تمويل هذا النوع من الجهود الكبيرة. وسوف تؤدي أزمة إنسانية ضخمة جديدة إلى تجميد هذا الجهد. ويجب على الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يستخدم قناة الاتصال التي أقامها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإيضاح أن الولايات المتحدة سوف تعيق كل جهد روسي لإعادة إعمار سورية في حال أعطت روسيا الضوء الأخضر لهجوم الأسد على إدلب الكبرى، الآن أو في المستقبل. أما إذا كان مثل هذا الاتصال من ترامب ببوتين سيغير الحسابات الروسية، فهو شأن غير معروف، لكنه يمكن أن يشكل استخداماً فعالاً ومُنقذاً للحياة لعلاقة ترامب الودية مع الرئيس الروسي.
لعل الأهم من ذلك هو حقيقة أن تركيا تحتفظ بوجود عسكري في إدلب، وفي هذه الحالة تتوافق مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة. وبموجب اتفاق سابق مع روسيا وإيران، احتفظت تركيا باثني عشر موقعاً للمراقبة حول المحافظة. وقد خلق هذا النشر المحدود للقوات التركية رادعاً، ولو أنه ضعيف، حيث لا تريد الحكومة السورية وروسيا وإيران الشروع في مواجهة مباشرة مع تركيا. كما لا تريد تركيا ولا الولايات المتحدة رؤية هجوم بشع جديد يسفر عن كارثة إنسانية وتدفق هائل جديد للاجئين.
لن يكون العمل مع تركيا سهلاً. وما تزال هناك توترات مهمة قائمة مع تركيا بسبب قرار الولايات المتحدة تسليح المقاتلين الأكراد لمحاربة “داعش”. وقد أفضت الحملة العسكرية التركية واحتلال منطقة عفرين السورية الشمالية الغربية ذات الأغلبية الكردية إلى طرد جماعي كبير للسكان الأكراد. وفي المؤتمر الذي عُقد يوم 7 أيلول (سبتمبر) في طهران بين تركيا وروسيا وإيران، أكد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان رغبته في شن حرب على شركاء الولايات المتحدة في شمال شرق سورية، حتى مع أنه دعا روسيا وإيران إلى كبح جماح الأسد في إدلب. وفيما وراء المسألة السورية أيضاً، وصلت العلاقات الأميركية-التركية الآن إلى نقطة منخفضة –حيث وعد ترامب بفرض تعرِفات جمركية وعقوبات أخرى على تركيا.
ولكن، عندما يأتي الأمر إلى سورية، كان تغير التحالفات بين القوى الأجنبية هو الطبيعي والمتوقع. وفي حالة إدلب، تجد الولايات المتحدة وتركيا نفسيهما على الجانب نفسه. ويمكن أن يكون عملهما معاً في هذه المنطقة من شمال غرب سورية خطوة إيجابية في اتجاه تحسين العلاقات الأوسع بين الولايات المتحدة وتركيا.
مع أخذ هذه التحديات والفرص بعين الاعتبار، يجب على الولايات المتحدة أن تتبع مسارين للعمل في إدلب. أولاً، عليها أن تستمر في خلق غطاء دبلوماسي لتركيا بينما تتفاوض مع روسيا وإيران وحكومة الأسد. وحتى الآن، كانت الولايات المتحدة منخرطة بشكل نشط في الوضع في إدلب الكبرى واتخذت الخطوات الصحيحة عندما أعلنت للجميع، بما في ذلك من خلال تغريدة للرئيس ترامب، أن هناك انتباهاً أميركياً متزايداً للأزمة هناك. وكان جهد الولايات المتحدة لمنح الأولوية للاجتماع الذي عُقد في جنيف في 14 أيلول (سبتمبر) مؤشراً آخر على الانخراط الأميركي الأعمق. وعلى الرغم من أن ذلك الاجتماع أنتج وثيقة حول الطريق إلى الأمام بخصوص الإصلاح الدستوري في سورية ودولة ما بعد الأسد، فإن الطريق ما يزال طويلاً في الأمام لتأسيس آلية انتقالية تنتهي بذهاب الأسد وإقامة رقابة على النظام الذي دعمه طوال فترة الحرب.
كما تشير التقارير أيضاً إلى أن حكومة الولايات المتحدة تقوم بدراسة خيارات لتوجيه ضربات عسكرية ضد نظام الأسد –ليس فقط بسبب احتمال استخدامه الأسلحة الكيميائية، وإنما أيضاً إذا أطلق بشكل أحادي غزواً برياً لإدلب الكبرى من دون وجود اتفاق مسبق. ولأول مرة في الصراع السوري، ربما تكون الولايات المتحدة راغبة في التصرف لحماية السكان المدنيين في منطقة تسيطر عليها المعارضة، وليس كردة فعل فقط مثل المرات السابقة. ومع ذلك، ربما لا تكون التقارير التي تسربت إلى وسائل الإعلام عن النوايا الأميركية المحتملة كافية لوقف الأسد، ولذلك يجب على الرئيس ترامب أن يعلن على الملأ أن الأسد وحلفاءه سوف يواجهون عواقب خطيرة محتملة في حال شنوا الحرب على إدلب.
ثانياً، عن طريق شراء الوقت لتركيا وشركائها السوريين المحليين، يجب أن تشجع الولايات المتحدة بنشاط وتمكِّن الأنشطة العسكرية لتركيا والثوار السوريين ضد تنظيم القاعدة، و”داعش”، والمنظمات السلفية المتشددة المتحالفة مع القاعدة، مثل “هيئة تحرير الشام” و”الحزب الإسلامي التركستاني”. وعلى الرغم من أن حماية السكان المدنيين في محافظة إدلب الكبرى يجب أن يكون الأولوية الأولى للولايات المتحدة في هذه الأزمة، فإن مهمة مكافحة الإرهاب هي مسألة مهمة أيضاً، وعلى الولايات المتحدة أن تغتنم الفرص لبناء النفوذ في أوساط المعارضة السورية، ولمحاربة المنظمات المتطرفة المتمركز في هذه المنطقة.
سوف يتطلب هذا الجهد عملاً حقيقياً من تركيا –بل وحتى الأكثر أهمية، من قوات المعارضة المتحالفة معها في إدلب- للقبول بتحمل المسؤولية الأساسية عن مواجهة وهزيمة تنظيم القاعدة وتفكيك الملاذ الآمن الذي بناه التنظيم في شمال غرب سورية. ويجب على الولايات المتحدة أن تستخدم هذه الفترة لتقدير ما إذا كان بوسعها استئناف تقديم الدعم الإنساني والاقتصادي ودعم المجتمع المدني وجماعات مسلحة محلية مختارة بعد التمحيص، والتي تنخرط بإيمان في مواجهة القاعدة وشركائه. ويجب على القوات العسكرية التركية أن توفر الدروع، والنيران غير المباشرة، والضربات الجوية والتدريب والمشورة للمعارضة السورية المحلية المسلحة الراغبة في مواجهة المجموعات المتطرفة في إدلب. ويجب على الولايات المتحدة أن توضح لتركيا ولتلك الجماعات المعارِضة أن هذه أولوية عليا، وأنهم إذا كانوا يريدون الحصول على الدعم الأميركي ضد روسيا وإيران في إدلب، فإن عليهم أن يستأصلوا شأفة القاعدة من المنطقة.
إذا تعاونت الولايات المتحدة وتركيا للاحتفاظ بالسيطرة على الجبهة في إدلب، فإن ذلك قد يكون البداية لتنسيق أوسع إطاراً بين البلدين الحليفين في “الناتو”.
يمكن أن تحاول الولايات المتحدة عندئذٍ البحث عن فرص طويلة الأجل لإقامة جسور اجتماعية، واقتصادية وأمنية بين منطقة سيطرتها في شمال وشرق سورية وبين المنطقة التركية في شمال وغرب سورية، ويمكن أن تخلق منطقة واحدة كبيرة تركية-أميركية يتم الإبقاء عليها خارج سيطرة الحكومة السورية، وروسيا وإيران. ثم يمكن بعد ذلك أن يتم استخدام المنطقة لممارسة ضغط طويل الأمد على روسيا للعمل من خلال عملية جنيف للتوصل إلى اتفاق حول كيفية نقل السلطة من الأسد، والضغط على إيران ووكلائها للانسحاب، وبذلك تهيئة الظروف لسحب الولايات المتحدة قواتها من سورية.
ولكن، حتى لو تبين أن تحقيق كل ذلك صعب، فإن تعاوناً بين الولايات المتحدة وتركيا في الحد الأدنى هو أمر حاسم لتجنب حدوث كارثة إنسانية وأزمة لاجئين جديدة بينما يتم القضاء على الملاذ الآمن لتنظيم القاعدة. ويجب أن تكون الولايات المتحدة وتركيا قادرتين على العمل معاً على تحقيق هذه الأهداف المشتركة الواضحة جداً.
الغد