خلال فترة إدارة أوباما، تم التعامل مع سورية باعتبارها أحجية من جزأين يفصل بينهما نهر الفرات. إلى الشرق من الفرات، كان الهدف هو إضعاف “داعش” وتدميره. وقامت الاستراتيجية على دعم العمليات القتالية ضد “داعش” التي تشنها ميليشيا كردية (لاحقاً مختلطة يهيمن عليها الأكراد)، بالأسلحة والذخائر والإمدادات، والمستشارين على الأرض، والطائرات في السماء. ومع أن إدارة ترامب تعتقد بأنها تستحق أن يُسند إليها الفضل في تسريع الحملة ضد “داعش”، فإن الهدف والاستراتيجية في شرق سورية ظلا ثابتين.
إلى الغرب من الفرات، أعلنت إدارة أوباما عن وقوفها مع عملية انتقال سياسي بما يتفق مع البيان الختامي الذي صدر يوم 30 حزيران (يونيو) 2012 عن مجموعة العمل الخاصة بسورية (التي تضم الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة)، والذي تضمنه قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015). وتم اختزال هذه الاستراتيجية إلى مناشدة روسيا لإقناع عمليها السوري بالمشاركة في المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف، بحيث يأتي بمزاج لقبول الحوار، والتسوية، وتقاسم السلطة، وانتقالها في نهاية المطاف عن طريق انتخابات تعقد في أواسط العام 2016. وفي المقابل، تُلزم إدارة ترامب نفسها بعملية سياسية تجري في جنيف، متوافقة مع القرار 2252. لكن المكان الذي تختلف فيه أكثر ما يكون عن سابقتها، هو الصلة التي تراها بين جزئي الأحجية على جانبي الفرات -التي كانت إدارة أوبامام قد نفتها إدارة.
ليس الإدراك العقلي لحقيقة أن سورية هي مشكلة وحدوية متجذرة التحريض المتطرف والإجرامي لنظام الأسد شيئاً جديداً. ولكن، ماذاعن عمل شيء إزاءها؟ كان بإمكان الرئيسين، دونالد ترامب وأوباما، أن يجريا بلا شك نقاشاً مستحقاً حول حقيقة أن العميل السوري لإيران وروسيا ونظامه يتحملان -وفقاً للبروفيسور مارك لينش، “المسؤولية الكاملة عن بدء يوم القيامة السوري، وما كان ينبغي أن يُسَمح أبداً بتأهيلهما لمعاودة الانضمام إلى المجتمع الدولي”. وربما لم يكن ليتشكل لدى ترامب أو أوباما ميل على الأقل إلى دعم الرئيس جيمي كارتر في دعوته المحبطة لإعادة تأهيل النظام.
في الواقع، ربما كان الرئيس أوباما ليعترف بأن بداية المشروع الذي فتحه “داعش” في شرق سورية كان لملء الفراغ الذي جعلته ممكناً عدم شرعية الأسد وقرار النظام التركيز عسكرياً على السكان المدنيين في غرب سورية. ومع ذلك، كان أوباما متعثراً في رده على المذبحة الجماعية وترويع المدنيين على يد نظام الأسد.
خشي أوباما أن يؤدي رد -من نوع ردود الفعل الانتقامية المحدودة على الحرب الكيماوية التي أمر بها خلفه في العامين 2017-2018- سوف تؤدي إلى تنفير إيران (أكبر داعم للأسد) وبالتالي إفساد المفاوضات النووية. ومن هنا جاءت القصة العملياتية الخيالية عن كون سورية شرق الفرات –المعركة ضد “داعش”- تحدث في عالم موازٍ، وإنما منفصل، عن حرب الأسد على المدنيين السوريين غرب النهر -حتى أنه يقال إن الرئيس أوباما طمأن المرشد الإيراني الأعلى إلى أن سياسة الولايات المتحدة القائمة على فكرة العالَمين المنفصلين في سورية سوف تترك عميله في مأمن من أي عمل عسكري أميركي: وهي بوليصة تأمين لا تقدر بثمن بالنسبة لشخص متورط في القتل الجماعي.
بكونها غير ملتزمة (على أقل تقدير) بضرورة تطمين إيران إلى حصانة الأسد وإفلاته من العقاب، وضعت إدارة ترامب نهاية لنهج العالَمين في بسورية. وتبقى هزيمة “داعش” -كما كان حالها خلال ولاية إدارة أوباما- الهدف الأميركي الأعلى في سورية. ومع ذلك، استنتجت إدارة ترامب -محقة تماماً- أن القضية الكامنة وراء التطرف الإسلامي في سورية -نظام الأسد- يجب أن تُعالَج. وعلى الرغم من أن “داعش” في حد ذاته هو ظاهرة عراقية تم فرضها على شرق سورية، فإن المزيج من فساد النظام، وعدم كفاءته ووحشيته، واعتماده في بقائه على الميليشيات الشيعية الخارجة على القانون التي تقودها إيران، تجعل الفرص جيدة لانبعاث المتطرفين الإسلامويين والإرهابيين العابرين للحدود في المناطق غير المحكومة من سورية. ولدى نظام الأسد سجل طويل من إظهار عدم قدرته على الحكم.
مثل سابقتها، لا تهدف إدارة ترامب إلى تغيير عنيف للنظام في سورية. وهي مستعدة بدلاً من ذلك للإشراف على إضفاء الاستقرار على المناطق المحررة من “داعش”، وإبقاء قوات النظام غير المنضبطة ورجال الميليشيات التي تقودها إيران على الجانب الغربي من الفرات. ومن أجل إخماد التطرف الإسلامي لدى المكون السني في سورية بشكل دائم، تريد الإدارة خروج المتطرفين الإسلاميين الشيعة من البلد. وسوف يكون تحقيق هذا الهدف إشكالياً. فالنخبة السياسية الإيرانية الحالية -كلها بلا استثناء- متحدة الآن حول اقتراح إدامة الأسد واستمراره في الحكم لتعزيز موقف إيران في العالم العربي، وحماية حزب الله اللبناني والحفاظ على قوته.
تبدو “نظرية القضية” التي تتبناها الإدارة الحالية هي أن الأسد لم يفز بالحرب؛ وأن جزءاً مهماً من البلد ما يزال خارج قبضته؛ وأن خطوط وقف إطلاق النار تتعزز؛ وأن عملية سياسية -تبدأ بإنشاء “لجنة دستورية” وتنتهي بتطبيق القرار رقم 2254- يمكن أن تبدأ قريباً. ووفقاً لهذه النظرية، سوف تجعل بدء عملية سياسية من الصعب على النظام وحلفائه محاولة تغيير خطوط وقف إطلاق النار باستخدام القوة. وفي نهاية المطاف، يمكن أن تفضي مثل هذه العملية إلى تأسيس هيئة حاكمة انتقالية، والتي ستطلب من الإيرانيين ومقاتليهم الأجانب المستأجرين، في انسجام مع مبادئ القومية السورية، مغادرة البلاد. ويبدو أنه ليس لدى الإدارة اعتراض على وجود علاقة تعاونية مستمرة بين دمشق وموسكو.
كان الوصل بين جزئي الأحجية السورية مستحقاً منذ وقت طويل. ومع ذلك، ما مِن دليل حتى الآن على أن لدى المؤسسة الإجرامية التي تزعم أنها تحكم سورية أي رغبة في التنازل أو تقاسم السلطة. ولو كانت لديها مثل هذه الرغبة، لكانت ستؤشر على اهتمامها بإطلاق سراح المعتقلين الذين ما يزالون على قيد الحياة، وتتحمل المسؤولية الكاملة عن أولئك الذين قتلتهم.
كما أنه ليس هناك أي دليل على أن روسيا تنطوي على الرغبة -أو القدرة- لإجبار عميلها على فعل أي شيء. وليس لإيران -بمن فيها من يُدعَون “المعتدلين”- أي مصلحة في التخلي عن محافظتها السورية. وحتى لو قيَّض للأفضل أن يحدث -قيام عملية تفاوضية حقيقية، والتي تولد إجماعاً على انتقال سياسي يحفظ البلد- فإنه يجب تجنب الجانب السلبي النازع للاستقرار في القرار 2254. وإذا كان لأحد أن يصمم سيناريو لإعادة إغراق سورية في فوضى تلف البلد كله، فإنه سيوصي بإجراء انتخابات وطنية في المدى القريب. يجب أن تكون الانتخابات مسبوقة بفرض حكم القانون، وعودة اللاجئين، والبدايات الأساسية للمصالحة وإعادة الإعمار. ويمكن أن تشرف على هذه الأمور هيئة حاكمة انتقالية محايدة. ويمكن للدول الإقليمية التي عمقت بؤس سورية بطريقة لا يمكن إنكارها، ودعمت استراتيجية الأسد للبقاء عن طريق تلويث المعارضة بقُطاع الطرق الطائفيين، يمكنها أن تستخدم مواردها بطريقة خيِّرة كتغيير، عن طريق دعم عملية سياسية انتقالية وطنية في سورية.
على المدى القريب، سوف تعتمد احتمالات نجاح استراتيجية إدارة ترامب في سورية على إضفاء الاستقرار بفعالية على شرق سورية، ودعم جهود تركيا لإضفاء الاستقرار على محافظة إدلب، وتثبيط نظام الأسد عن استئناف المذبحة الجماعية في صفوف المدنيين: سواء استخدم النظام الأسلحة الكيميائية أو الأسلحة الأخرى للإرهاب الجماعي. وسوف تفعل الإدارة حسناً إذا هي فعلت شيئاً تجنبته إدارة أوباما السابقة إلى حد كير: تحديد السوريين الذين ستعمل معهم، خاصة في الشرق. ستكون مساعدة الأكراد على تحقيق حكم محلي فعال في المناطق ذات الأغلبية الكردية شيئاً أساسياً. وسيكون الاعتماد عليهم للإشراف على جهود إضفاء الاستقرار وتأمينها في المناطق ذات الأغلبية العربية بمثابة طلب للمتاعب.
يشكل توحيد جزئي الأحجية السورية إنجازاً كبيراً. وسوف يتطلب تطبيق استراتيجية لمعالجة الأسباب الكامنة لبؤس سورية وعدم الاستقرار الذي خلقته في الجوار ما وراءه الكثير من الصبر، والمثابرة، والقدرة الفكرية المستدامة. وما لم يتم إشراك السوريين في هذا الجهد، فسيكون الرهان هو تغلب إيران على الولايات المتحدة في سورية. وإذا فعلت ذلك، فإنها ستبث حياة جديدة في شكل من التطرف الإسلامي الذي لا يختلف كثيراً عن تطرفها الخاص.
الغد