اقتفت شريحة من المستثمرين العرب عموما والخليجيين خصوصا أثر موجة الإقبال العالمي على شراء العملات الرقمية المشفرة التي وجدوا فيها ملاذا استثماريا من شأنه تمكينهم من جني الأرباح السريعة.
وساهم صعود نجم تلك العملات الرقمية في السنوات الأخيرة في سحب البساط من تحت أسواق المال التقليدية التي كان العرب والخليجيون يألفونها ويتماهون مع مد وجزر أسهمها.
فقد أفضت حالة السكون النسبي التي أصابت أسواق المال الخليجية إلى نزوح شريحة من أصحاب المدخرات صوب خوض غمار الاستثمار في سوق العملات الرقمية، متجاهلين غياب هيئات رقابية وتنظيمية تشرف عليها، غير آبهين بالتحذيرات التي أطلقتها مؤسسات مالية محلية وأخرى دولية تنصلت فيها من مآلات التعامل مع هذه السوق الافتراضية.
العصر الافتراضي
وفي عصر بات فيه كل شيء خاضعا للعالم الافتراضي؛ وجد كثيرون الفرصة سانحة أمامهم للتعامل بهذه العملات الرقمية بمجرد اقتنائهم بطاقة ائتمان مصرفية إلى جانب هاتف ذكي أو حاسوب توجه من خلال أيهما أوامر بيع وشراء أي من تلك العملات التي اشتهر منها بتكوين وبدرجة أقل كل من “الإيثيريوم” و”الريبل” وغيرها.
وبما أن بتكوين “كانت العملة الأكثر تداولا وجذبا للمتعاملين، فقد تتبع أولئك المستثمرون كل صغيرة وكبيرة تتصل بها، ورافقوا رحلة صعودها إلى مستوى 20 ألف دولار أميركي بنهاية عام 2017، قبل أن يشهدوا تداعيها السريع صوب مستوى أقل من 3500 دولار، وذلك قبيل إسدال الستار على السنة المالية 2018.
المجازفة الكبيرة والتأرجح السريع في سعر العملة الشهيرة أسهما في فتحِ الباب على مصراعيه من جديد أمام تساؤلات ذات طابعٍ تنظيمي ومالي وأخرى فقهية تتعلق بشرعية التعامل مع سلعة افتراضية لا يمكن للمرء حيازتها وتلمسها في عالمه الحقيقي.
ولم يدشن باب التساؤلات المذكورةِ إبان رحلةِ تداعي سعر بتكوين خلال العام الحالي فحسب؛ بل أثيرت قبل ذلك بكثير، خصوصا أنها كانت مثار شكوك مردها استحالة تحقيق أي استثمارٍ لعائد يصل لأكثر من الضعف في فترة وجيزة، فكيف إذا كان العائد أكثر من ذلك!
وقفزت العملة المذكورة خلال العام 2017 بواقع وصل إلى نحو 20 ضعفا انطلاقا من مستوى 1000 دولار فقط.
الجانب التنظيمي
فمن الجانب التنظيمي صدر أول التحذيرات من قبل لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية التي ألقت الضوء في عام 2014 على المحاذير المواكبة للتعامل مع سائر العملات الافتراضية، قبل أن تشرع هذه الهيئة التنظيمية وسواها على ضفتي المحيط الأطلسي بوضع بعض اللمسات التنظيمية التي أخضعت عبرها بتكوين لآلية يمكن مقايضتها بالنقد، كما فعلت السويد وسويسرا.
ويتركز مجهود تلك الجهات التنظيمية في الوقت الراهن على إمكانية استخدام العملة الرقمية القائمة على تقنية بلوكشين، والأخيرة بمثابة تقنية لتخزين التعاملات الرقمية وترخيص التعامل بها والتثبت من صحتها استنادا إلى آلية توزع عبرها قواعد البيانات المشفرة على المتعاملين بشكل يصعب معه اختراقها.
وكانت شركة “سايفر تريس” الأميركية المتخصصة في الأمن الإلكتروني قد قدرت حجم سرقات العملات المشفرة عبر القرصنة بنحو 927 مليون دولار، وذلك خلال الأشهر التسعة الأولى في عام 2018، بزيادة تقدر بنحو 50% عن الفترة نفسها من السنة الماضية.
الرأي الفقهي
وبينما يجدّ العالم في وضعِ حد لانتشار هذه العملات أو وضعِ قيود وقواعد لتنظيم تداولها، يتجدد الرأي الفقهي في النهي عن التعامل بها.
فقد أكد الدكتور شوقي علام مفتي مصر على عدم جواز التعامل بـالبتكوين وشقيقاتها، نظرا لكونها وحدات افتراضية غير مغطاة بأصول ملموسة، فضلا عن كونها قد تفضي إلى ولادة مخاطر عالية قد تصيب الأفراد والدول.
موقف وافقه فيه عضو هيئة كبار العلماءِ بالسعودية الدكتور محمد المطلق قائلا إن من يتداولون هذه العملات “مثل الذين يلعبون القمار والميسر، لكن المسلم لا يدخل في الغرر. والغرر أخف من هذا بكثير، فالغرر الذي نهى عنه النبي كان في أشياء يسيرة، فكيف بهذا؟”.
أما الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الخبير بالمجامع الفقهية الدولية علي القره داغي فقال إن البيتكوين ليس محرما لذاته لأنها عملية إلكترونية علمية مشروعة، ولكنها محرمة لما يترتب عليها من المضاربات وضياع الأموال وفقدان الأصل أو الضامن لها، وهذا ما يسمى بتحريم الوسائل، حسب ما أوردت مصادر إعلامية في قطر.
القره داغي أضاف أن تحريم الوسائل يختلف عن تحريم المقاصد والأصول، فتحريم الأصول لا يحل في أي حال إلا للضرورة، أما تحريم الوسائل فيكون إذا زاد الفساد.
البعد التنظيمي
أما على الصعيد التنظيمي فإن بعض البنوك المركزية العربية لا تجد ضيرا في التعامل مستقبلا مع العملات الافتراضية شريطة خضوعها للإجراءات التنظيمية التي تضبط إيقاع المتاجرة بها.
وفي هذا الصدد قال الشيخ عبد الله بن سعود آل ثاني محافظ مصرف قطر المركزي في مؤتمر أقيم بالدوحة مؤخرا “ننظر للعملة الرقمية باعتبارها من إحدى العملات المهمة المستقبلية التي يجري تداولها عالميا بهدف تسهيل المعاملات الإلكترونية”.
وأضاف “ليس لدينا مانع من أن تكون هناك عملة رقمية من خلال النظم والتشريعات التي تنظم تداولها بشكل قانوني”.
لكن المحافظ حذر من التعامل مع هذه العملات بنفس الطريقة التي تدور حاليا وذلك في ظل غياب الجهات الرقابية والتنظيمية التي من المتوجب أن تكون بمثابة المظلة لأنشطتها.
ورغم دعمه للمبادرات والابتكارات المالية التي تستخدم أحدث التكنولوجيا العالمية بما في ذلك تكنولوجيا البلوك تشين (Blockchain)؛ فإن البنك المركزي الأردني جدد تحذيره من التعامل بالعملات الرقمية، وذلك في تعميم منشور على موقعه الإلكتروني.
هذا الأمر تبنته أيضا سلطة النقد الفلسطينية التي أعلنت نهاية العام الماضي عن حظر التداول بالعملات الرقمية لما تحتويه من مخاطر. ولفتت السلطة إلى أن جميع الجهات والأطراف المحلية التي تتعامل بتلك العملات غير مرخص لها وغير خاضعة لإشرافها.
الجانب الاستثماري
وفي الشأن الاستثماري يرى المدير العام لشركة بيت الخبراء للاستثمار ومقرها قطر محمد اليافعي أن الاستثمار في هذه العملات ليس شأنا آمنا، نظرا لاتساعِ الحيز السعري الذي تتحرك فيه، مما يجعلها عرضة للتذبذب الواسع الذي يهدد مصالح الأفراد ومدخراتهم.
وأضاف لـ”الجزيرة نت” أن هذه السوق الافتراضية تعاني أيضا من خطورة أخرى تتمثل في صعوبةِ القدرة على رقابتها، مما قد يجعل منها منبرا للعمليات المحظورة من قبيل تجارِة المخدرات والسلاحِ ونشاط غسل الأموال.
وأضاف “من غيرِ المنطقي أن يتجاوز حجم سوق البتكوين مثلا ميزانية اقتصاد 73 دولة حول العالم”.
ويُقدر حجم رسملة سوق بتكوين -التي مر على انطلاقتها قرابة عشرِ سنوات- قرابة 14.2 تريليون دولار، أي ما يفوق حجم الناتجِ المحلي للصين، صاحبة ثاني أكبر اقتصاد بالعالم بعد الولايات المتحدة الأميركية.
وكرر اليافعي مقولة مشهورة للمستثمر العالمي المعروف وورن بافيت التي حذر فيها من مغبة الاستمرار في السماح بالتعامل بالعملات الافتراضية، وذلك لصعوبة حيازتها وامتلاكها بشكل طبيعي من جهة، ولعدم إضافتها أي قيمة أو ناتج لاقتصاد البلدان.
مخاوف
وتعاظمت المخاوف في أوساط المتعاملين بالعملات الرقمية في الشهرين الأخيرين، وذلك مع تعرضها لتراجعات سريعة أفضت إلى تبخر أموال كثير من العرب عموما والخليجيين خصوصا، وهو ما دفع للتفكير مجددا بالعودة إلى أسواق المال التقليدية التي تضمن للمستثمر فيها حيازة حقيقية لأسهم الشركات المدرجة فيها.
وتفاوت أداء البورصات العربية هذا العام، ففي حين صعد مؤشر السوق القطرية بواقع 24% فقد سجلت السوق المصرية أدنى مستوياتها منذ 18 شهرا.
ويتوقع أن يستمر الجدل حول هذه العملات الافتراضية التي تسببت بإثراء كثيرين وإفقار آخرين، لكن ذلك الجدل لن ينتهي ما لم يجر اتفاق بين الجهات المالية والرقابية على ضوابط لهذه السوق المستجدة.