تشير تصريحات أطلقها، أخيرا، الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى قرب شن جيش بلاده عملية عسكرية في مناطق شرق الفرات، ضد الوحدات العسكرية التابعة لحزبالاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في سورية، والذي تعتبره أنقرة الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، لكن توقيت العملية ومداها يبقيان مرهونين بمعطيات ووقائع عديدة، تجعل العملية المرتقبة محدودة، بحيث أن أي عمل عسكري للجيش التركي والفصائل السورية العاملة ضمن “الجيش الوطني”، قد لا يشمل سوى جزء من الشريط الحدودي، سواء من جهة منطقة عين العرب (كوباني) أم من جهة منطقة تل أبيض، وأنه سيجري تفادي الاصطدام بنقاط المراقبة الأميركية في المنطقة، في ظل قلق أميركي من “إقدام أي طرف على عمل عسكري من جانب واحد في شمال شرق سورية، وبالأخص في منطقة يحتمل وجود طواقم أميركية فيها”، حسبما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).
وتطمح القيادة التركية إلى تحجيم مليشيات وحدات حماية الشعب الكردية، خصوصا بعد الدعم الكبير الذي تلقته من الولايات المتحدة الأميركية ودول التحالف الذي تقوده ضد “داعش”، لكن الطموح التركي يصطدم بعوائق كثيرة، أهمها الوجود الأميركي في المنطقة. ولذلك يظهر التهديد التركي بشن عملية عسكرية في مناطق شرقي القوات كأن الهدف منه الضغط على الولايات المتحدة، لتسرع في تنفيذ اتفاق منبج الذي وُضعت له خريطة طريق في مايو/ أيار الماضي، ولم تُنجز نقاط عديدة فيه، وأهمها انسحاب المليشيات التابعة لحزب الاتحاد
“هدف العملية إبعاد المليشيات عن الشريط الحدودي، ومنع قيام أي كيان كردي شرق الفرات”
الديمقراطي الكردي، بل ترى تركيا أن تسليح الولايات المتحدة هذه المليشيات موجه في النهاية ضدها، ويشكل خطراً على أمنها القومي. يضاف إلى ذلك أن التطمينات الأميركية لتركيا يناقضها سعي أميركي نحو تدريب 35 إلى 40 ألف عنصر مقاتل في منطقة الجزيرة السورية، من دون إعطاء ساكنيها من العرب دورا كبيرا، ما يعني زيادة الاعتماد على عناصر تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي. والأهم نشر الولايات المتحدة نقاط مراقبة عسكرية، ترى أن غايتها منع أي احتكاك بين الجيش التركي والمليشيات الكردية، ولتبديد المخاوف الأمنية التركية، فيما اعتبر الرئيس أردوغان أن “الغاية من الرادارات ومراكز المرقبة التي أقامتها الولايات المتحدة، ليسست حماية بلادنا من الإرهابيين، بل حماية إرهاييي تركيا”.
ويبدو أن التهديدات التركية بشن عملية عسكرية في شرق الفرات تعود إلى اعتبارات عديدة، وتهدف ليس إلى إبعاد عناصر المليشيات الكردية عن الشريط الحدودي، والتخلص من خطرها على الداخل التركي فقط، بل أيضاً منعاً لقيام أي كيان لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري في مناطق شرق الفرات، وذلك بعد أن تمكّنت تركيا، في عمليتي درع الفرات وغصين الزيتون، من وضع حدّ لممكنات تمدّد هذا الكيان إلى مناطق غرب الفرات، من خلال قطع أي صلة بين كانتوناته في شرق الفرات (القامشلي وكوباني) مع تلك التي كانت في غربه (عفرين). وبالتالي تريد تركيا استكمال عملية منع قيام كيان معاد لها على حدودها الجنوبية مع سورية، وإيقاف أي تهديد مباشر لأمنها القومي، خصوصا وأنها تعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي النسخة السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، الذي تعتبره تركيا ودول غربية منظمة إرهابية، ويخوض الجيش التركي ضده حرباً شرسة، منذ سنوات، في مناطق الجنوب الشرقي لتركيا.
غير أن هناك من يرى أن عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” حصلتا عبر صفقتين أو مقايضتين، الأولى في نهاية عام 2016، حصلت مقابل تمكين الروس ومليشيات نظام الملالي الإيراني مليشيات نظام الأسد من إعادة السيطرة على أحياء حلب الشرقية، والدخول في مسار أستانة الذي اجترحه الروس، والثانية في بداية عام 2018، حصلت في سياق هذا المسار، الذي أفضى إلى هزائم وانكسارات عديدة للفصائل السورية المعارضة، من خلال تمكين مليشيات النظام، بإسناد روسي وإيراني، من إعادة السيطرة على مناطق غوطة دمشق وصولاً إلى مناطق في ريف حمص الشمالي.
“ترى تركيا أن تسليح الولايات المتحدة الأكراد موجه ضدها، ويشكل خطراً على أمنها القومي”
في المقابل، لم يجد حزب الاتحاد الديمقراطي سوى الاحتماء بالقوات الأميركية، والتهديد برقف معاركه ضد ما تبقى من جيوب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مناطق دير الزور، لكن اللافت والمثير للسخرية أن يوجه “الإدارة الذاتية” التابعة له بإصدار بيانٍ تدعو فيه نظام الأسد إلى “اتخاذ موقف رسمي ضد التهديد التركي”، معتبرة أن تركيا “تريد احتلال جزء من سورية”، و”الاعتداء على السيادة السورية”. وكأن المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي بالقوة، ورغماً عن أهلها، يمتلك النظام فيها أي سيادة عليها، في حين أن القاصي والداني يعلم أن السيادة في تلك المناطق هي للقوات الأميركية التي توظف مليشيا الوحدات كمجرد طلقة في حرب التحالف الدولي ضد “داعش”، بقيادة الولايات المتحدة، والأدهى من ذلك أنها تدعو، في بيانها، “السوريين الشرفاء إلى الوقوف ضد السياسات الاستعمارية للدولة التركية”، في حين أنها هجّرت جميع السوريين المخالفين لتوجهات حزب الاتحاد الديمقراطي من إمكان عيشهم وسكناهم، وفرضت سيطرتها بالقوة على مناطق عدة في شمال سورية، وخصوصا محافظة الحسكة وعين العرب (كوباني) وتل أبيض، ووصلت إلى منبج، بذريعة الحرب على “داعش”. وقبل ذلك وجهت مليشيات هذا الحزب سلاحها إلى صدور الناشطين الأكراد السوريين الذين قادوا حراكا ثورياً مبكراً إلى جانب نظرائهم من الناشطين السوريين، خلال المراحل الأولى للثورة السورية، وقادة حملة تصفيات وملاحقات طاولتهم جميعاً، بل وطاولت قادة الأحزاب الكردية السورية الأخرى وناشطيها.
ولا شك في أن عملية عسكرية تركية في شرق الفرات محكومة بظروف دولية وإقليمية، وإذا كان الساسة الروس ونظام الملالي الإيراني سينظرون بعين الرضى حيال عملية كهذه، كونها ستشكل حرجاً كبيراً للولايات المتحدة الأميركية، خصوصا في ظل التصعيد الروسي حيال الوجود الأميركي في سورية، واعتباره غير شرعي! إلا أن المحدّد الأساس لممكنات شن العملية العسكرية التركية هو الموقف الأميركي الذي يفضل التحاور من القادة الأتراك، لمنع أي تصعيد عسكري في مناطق توجد فيها قوات أميركية، الأمر الذي سيفضي إلى إقدام الإدارة الأميركية على خطواتٍ، تسهم في طمأنة الأتراك، مثل الفصل بين حزبي الاتحاد الديمقراطي والعمال الكردستاني، وتسريع تنفيذ اتفاق منبج، خصوصا وأن الولايات المتحدة بحاجة إلى تركيا لتنفيذ خطوات استراتيجيتها فيها. لذلك اعتبر المبعوث الأميركي إلى سورية، جميس جيفري، أنه “لا يمكن للاستراتيجية الأميركية في سورية أن تنجح من دون تركيا”.