القاهرة – تشق الصين طريق النجاح بالثبات من أجل أن تصبح قوة اقتصادية فاعلة في العالم، ولها وزنها السياسي لدى المجتمع الدولي، وقد نجحت في ذلك بالفعل نظرا للمكانة التي تحظى بها اليوم.
وتمكنت الدولة الصاعدة بسرعة صاروخية من تحقيق نقلة اقتصادية نوعية، حيث باتت تشكل تهديدا لأكبر القوى الاقتصادية في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تخوض حربا صامتة تجاه تعاظم القدرة التنافسية للتنين الصيني للمنتجات الأميركية في عقر دارها.
فمنذ النصف الأول من القرن العشرين، تركت الولايات المتحدة بصمة اقتصادية على العالم الذي تسوده العولمة.
كما أن للتدفق المستمر للقيم السياسية، والأنشطة المالية والثقافة الشاملة من أمريكا تأثيراته الهائلة، وكان لإجمالي الدلائل المختلفة للتأثير الأمريكي، دور مهم في تشكيل العالم الحديث.
ولكن الجديد اليوم، هو أن تميز أميركا يواجه تحديا من جانب الصين. وفى حقيقة الأمر، فإن الدولتين تبذلان كل ما في وسعهما لعدم السماح بأن تخرج المنافسة بينهما عن السيطرة تماما، وتعتمد كل منها على الأخرى اقتصاديا.
ومع ذلك، فإن جوهر ما يحدث هو أن الصين أصبحت القوة الثانية في العالم، وتريد أن تصبح القوة الأولى. ومن ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة غير مستعدة لأن تحل دولة أخرى محلها في وضعها القيادي.
ويقول باتشافيلي الباحث بمؤسسة جورجيا للدراسات الإستراتيجية الدولية أنه ليس هناك أي شيء غير عادى في هذا الوضع، فالصراع من أجل التميز مستمر، مع حالات توقف لفترة قصيرة، في إشارة إلى التنافس الأميركي الصيني اليوم.
فقد شهدت عقود كثيرة من الزمن صراعات بين دولة وأخرى إلى أن أصبح الصراع في الوقت الحالي بين الولايات المتحدة والصين، وليس من المقدر أن يسفر هذا الصراع عن حرب مباشرة (رغم أنه من المحتمل أن يحدث ذلك).
ومهما كانت الأشكال التي سيتخذها التنافس الصيني الأميركي، تعتبر المخاطر كبيرة للغاية، وليس فقط بالنسبة للدولتين المتنافستين.
ويضيف باتشافيلي أنه إذا حلت الصين محل الولايات المتحدة في دور قيادة العالم، حينئذ سوف يشكل واقعها الداخلي العالم الخارجي، تماما كما فعل واقع بريطانيا، وما زال يفعل الواقع الأميركي.
فالدول المتميزة عالميا تميل إلى تشكيل العالم بطرق كثيرة، فهذه الدول سواء عن قصد أو دون قصد، تقوم بتصدير ترتيباتها الداخلية إلى النظام الدولي كله.
والتأثيرات العالمية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والقانونية لهذه العملية عميقة للغاية.
وللدلالة على ذلك، يشير ديفيد باتشافيلي محلل العلاقات الدولية في مجلة “ذا ناشونال انتريست الأميركية” إلى أن التميز العالمي البريطاني، ثم الأميركي، كان السبب وراء وضع اللغة الإنجليزية، وليس الفرنسية أو الألمانية، نهاية للغة المشتركة التي كانت سائدة على وجه الأرض.
كما أن تجارة الرقيق تلقت ضربة مميتة عالميا عام 1807، عندما أسفرت التطورات الفلسفية والسياسية داخل بريطانيا عن حظرها، ولأن بريطانيا هي التي كانت تمتلك القوة البحرية لفرض الحظر بالفعل.
كما أدى الانتصار الغربي في الحرب العالمية الأولى إلى أن يكون الشكل الديمقراطي للحكومات في صدارة النموذج السياسي، وهو ما زال قائما حتى اليوم.
وفى الوقت الحالي، فإن الواقع الداخلي الذي يدور الحديث عنه ليس جيدا على الإطلاق. وفى حقيقة الأمر فإن الصين في عملية تحول من الشمولية المعتدلة نسبيا (وهى معتدلة بالمقارنة بعهد ماو) والسائدة فيها منذ تولى دينج تشى بينج منصبه إلى نموذج جديد قريب بشكل مقلق من نفس تعريف الاستبدادية.
وهناك سمة رئيسية تفرق بين أي نموذج استبدادي و نموذج شمولي، وهى أنه في ظل الاستبدادية ليس كافيا للمواطنين الاهتمام فقط بعملهم والامتناع عن المعارضة السياسية للنظام، ولكن أي نظام استبدادي يطالب بالالتزام الصارم بقواعده في الحياة اليومية للأفراد بما في ذلك الأمور التي لا علاقة لها بالسياسة، وذلك من أجل السيطرة على كل خطوة للجميع.
وهناك نظام صيني جديد يعتمد على المراقبة الشاملة والبيانات الكثيرة اللازمة لملاحظة وتقييم الأفعال اليومية للمواطنين، من المقرر أن يعمل بصورة كاملة بحلول عام 2020 وهو يعمل جزئيا في الوقت الحالي.
ووفقا لأحد مظاهر هذا النظام هناك 23 مليون مواطن ممنوعين من شراء تذاكر سفر للخارج بسبب أفعال مختلفة في حياتهم لم يرض عنها نظام المراقبة.
وبالإضافة إلى التوسع المقرر في النظام الشامل للمراقبة والتحكم في السلوك ليشمل كل أنحاء الصين، تمارس السلطات الصينية بالفعل عمليات اختفاء قسرية، كما تكثف في الوقت نفسه من اجراءتها الصارمة ضد حقوق الإنسان. ومن المحتمل أن يستمر كل هذا إذا أصبحت الصين القوة العظمى البارزة في العالم.
ويقول باتشافيلي أن هذه العملية بدأت بالفعل. ففي كمبوديا، على سبيل المثال، يؤدى النفوذ الصيني إلى تمكين السلطات الشمولية المحلية من قمع الديمقراطية. وتمتد ممارسات المراقبة التي تتبعها الصين إلى ما وراء حدودها.
ومن بين الأمثلة على هذه العملية قرار زيمبابوى الخاص باتباع نظام المراقبة والتعرف من خلال ملامح الوجه الذي زودتها به الصين في جميع أنحاء البلاد.
كما تبنت تنزانيا تشريعا خاصا بالأمن السيبراني يقيد حرية المحتوى على الانترنت، وهو ما يشبه النموذج الصيني وبمساعدة فنية من جانب الصين.
وقد حذت أوغندا حذوها أيضا، وفى باكستان، تم إقامة نظام مراقبة تديره الصين على طول طريق الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان.
وفي حقيقة الأمر، فإنه إذا ما قادت الصين العالم، حينئذ لن تستطيع الديمقراطية البقاء كشكل رئيسي للنظام السياسي، كما كان سائدا طوال نصف القرن الماضي، وسوف تعقب الأعراف والممارسات السياسية والقانونية للصين بشكل وثيق الانتشار العالمي للهيمنة الجغرافية السياسية، والاقتصادية الصينية.
وهذا هو السبب في أن التنافس المستمر حاليا بين أميركا والصين سوف يقرر أكثر كثيرا من مجرد أساليب القوى الكبيرة لهاتين الدولتين، وفى حقيقة الأمر، فإن التنافس هو صراع حول نوع الحياة التي سوف نعيش جميعا فيه.
العرب