في ظل احتدام التوتر وتصاعد المخاوف من نشوب حرب بين الولايات المتحد وإيران، أعلن وزير الدفاع الأميركي بالوكالة باتريك شاناهان أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تسعى لردع إيران وليس لإشعال حرب ضد الجمهورية الإسلامية، جاء ذلك بعد إطلاعه أعضاء الكونغرس على التطورات المتعلقة بهذا الملف.وقال شاناهان للصحافيين بعد خروجه من اجتماع مغلق مع وزير الخارجية مايك بومبيو “هذا بشأن الردع وليس الحرب.. نحن لسنا على وشك الذهاب إلى حرب”.وقال القائم بأعمال وزير الدفاع الأميركي إن الولايات المتحدة حالت دون وقوع هجمات إيرانية محتملة بنشرها قوات في الشرق الأوسط.وأضاف للصحافيين في الكونغرس “لقد منعنا هجمات بإعادة نشر أطولنا.. حلنا دون وقوع هجمات محتملة على القوات الأميركية.. تركيزنا الأكبر في هذه المرحلة هو منع سوء التقدير الإيراني”.وشدد على أن تعزيز الوجود العسكري في الشرق الأوسط كان يستهدف الردع.
ففي خطوة لم تكن مفاجئة، أرسلت واشنطن تعزيزات عسكرية ضخمة إلى منطقة الشرق الأوسط ضمّت حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” وخمس سفن حربية أخرى، ونشرت قاذفات استراتيجية من طراز “بي 52” في قاعدة العِديد القطرية التي يتمركز فيها نحو عشرة آلاف جندي أمريكي، وأعادت نشر بطاريات صواريخ باتريوت، كما قامت بتعزيز قواتها بسفينة هجومية برمائية.
الاستعراض الكبير لقوة الولايات المتحدة لم يقف عند هذا الحد، فهناك شبكة واسعة من القواعد العسكرية متمركزة في المنطقة منذ حرب الخليج الأولى عام 1991، من ضمنها قاعدة للأسطول الأمريكي الخامس في البحرين، ومقر الجيش الأمريكي الثالث في الكويت الذي يوجد فيه 16 ألف جندي أمريكي، وقوات أخرى في قاعدة الظفرة في الإمارات فيها حوالي 5 آلاف جندي، إلى جانب قواتها الخاصة في اليمن، هذا بالإضافة إلى أن لديها اتفاقية لاستخدام موانئ ومرافق ومطارات عُمانية.
تكثف الولايات المتحدة حضورها العسكري في الشرق الأوسط عبر سفن قادرة على تنفيذ إنزال بري على الشواطئ الإيرانية. إحدى حاملات الطائرات الأمريكية تمخر المياه في المنطقة. مقاتلات وقاذفات هجومية استراتيجية وبطاريات باتريوت وصلت مؤخرا، وكأنها تتأهب لمعركة حاسمة.
تهدد طهران بدورها مصالح واشنطن وحلفائها، وتتوعد بإغلاق مضيق هرمز، إن هي لم تستطع تصدير نفطها. أدواتها في سبيل ذاك الوعيد، ذراع صاروخية تطال الأراضي السعودية والإماراتية وإسرائيل أيضا، وقوة عسكرية لن تعجز رغم ضعفها عن إغلاق المضيق عند الحاجة، عدا عن وكلائها المنتشرين في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وسط أجواء مشحونة ومتوترة كتلك، تعلن أبو ظبي والرياض عن حوادث تخريب تطال بضع سفن وناقلات نفط. ما رشح عن الجانبين من تفاصيل تلك العمليات ضئيل بما يكفي لإثارة الكثير من التساؤلات، وعدم توجيه أصابع الاتهام لأي جهة يجعل المشهد أكثر ضبابية! في حين تبدو واشنطن مترددة حتى في تحميل وكلاء طهران المسؤولية عن الهجمات!
قد تشير الأصابع إلى الإرهاب وخصوصا «القاعدة»، أو إيران ومن خلفها حلفاؤها. يريد التنظيم استغلال الأجواء المتوترة، وله مصلحة ربما بحرب تنخرط بها الولايات المتحدة، كما معاقل التطرف على طرفي خط الصدع السني الشيعي الملتهب منذ عقد أو يزيد. احتمال وارد لكن ضعيف!
تقوم طهران بتنفيذ تهديداتها عبر عرقلة -وليس منع- تصدير الخام عبر المضيق. احتمال يبدو أكثر ترجيحا! فاعتداءات كتلك الأخيرة، يسهل على طهران إنكار المسؤولية عنها، ولا تحرج في الوقت نفسه واشنطن -وحلفاءها في الخليج- أو ترغمهم على رد عسكري في حال لم تتوفر لدى الأخيرة رغبة بالتصعيد. يدعم تلك الفرضية استهداف الحوثيين مؤخرا لخط الأنابيب الذي يسمح بتصدير ما يقارب نصف الإنتاج السعودي من النفط، عبر البحر الأحمر، ودون الحاجة إلى المرور في مضيق هرمز. وكأن طهران تهدد عبر وكلائها برفع كلفة أي تصعيد عسكري. ليس على الرياض فقط بل على واشنطن في المقام الأول، كنتيجة لصعود درامي في أسعار الخام بعد خروج كامل الإنتاج السعودي إضافة لدول خليجية أخرى من الأسواق.
يكفي ذلك لإثارة حنق حلفاء أمريكا وأعدائها على حد سواء، ورفع التكلفة السياسية إضافة إلى الاقتصادية لأي مغامرة عسكرية بهذا الحجم، سيما أنها لا تحظى بشرعية دولية سواء عبر قرار من مجلس الأمن أو تحالف للراغبين، كما لا تكتم كبريات القوى الأوروبية موقفها المعارض لأي تصعيد متهور لا تحمد عقباه.
قد يرى البعض في حشد الأساطيل الأمريكية تعبيرا عن إرادة سياسية بتنفيذ هجوم مبيت على الأراضي الإيرانية، يبدأ بذريعة مفبركة، وتعقبه ضربة جراحية تقتصر على تدمير بعض المفاعلات ومختبرات الأبحاث النووية الإيرانية، بما يضمن تأخير البرنامج النووي الإيراني لسنوات طويلة دون القضاء عليه نهائيا. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار سأم أمريكا وشعبها من الحروب، ووعود ترامب الانتخابية ونزعته لسحب الجيوش الأمريكية المنتشرة في بعض المناطق الساخنة، وتركيز الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي والبنتاغون على حشد الطاقات في مواجهة الصعود المتسارع للتنين الصيني وردع الدب الروسي الذي استفاق من غفوته، تتضاءل حينها فرص هذه الفرضية.
صاروخ الكاتيوشا الذي انفجر قرب السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء في بغداد، التي تتركز فيها وزارات النظام العراقي والسفارات الأجنبية، حوّل مرة واحدة العراق إلى بؤرة جديدة لمسار التصادم بين الولايات المتحدة وإيران. برد أوتوماتيكي تم نسب إطلاق النار للقوات المؤيدة لإيران أو مليشيات شيعية تتركز قيادتها في محيط بغداد، التي أرادت كما يبدو إرسال رسالة للإدارة الأمريكية وللحكومة العراقية بأن لا تخضع للضغوط الأمريكية.
مثلما في العمليات السابقة التي نفذت ضد سفن سعودية في الخليج الفارسي، ففي هذه العملية لا توجد حتى الآن أي معلومات عن الجهة المسؤولة عنها، لكن من الواضح ضد من هي موجهة. الضغط الأمريكي يعمل في مسارين. الأول يرغب في فصل اقتصاد العراق عن اقتصاد إيران. وبذلك إغلاق الفجوة المتوقعة في العقوبات على إيران. وبالتالي محاولة تمكين القوات الأمريكية من استخدام الأراضي العراقية كمنصة إطلاق للهجمات ضد إيران في حالة انتقال المواجهة إلى مسارات عنيفة.
بدأ الحصار الأمريكي لإيران، بتصفير الفوائد الاقتصادية للاتفاق النووي، المعروف رسمياً بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”، من خلال الانسحاب منه، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية، ثم انتقل إلى العمل على تصفير صادرات إيران من النفط والغاز، ثم امتد ليشمل قطاعات الحديد والصلب والألومنيوم والنحاس الإيرانية بضمها إلى قائمة العقوبات.
الحصار الاقتصادي تبعه حصار عسكري، بدأ بتصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، ما شكل ضربة مؤلمة للنظام الايراني، حيث يسيطر الحرس الثوري على مفاصل الدولة الايرانية، إضافة إلى حيازته ما يقارب ثلث الاقتصاد الايراني. ثم تطور الحصار العسكري ليصل إلى حشد قوة بحرية وجوية ضاربة، تنفيذا لاستراتيجية “الضغوط القصوى” التي أعلنتها إدارة ترامب لمواجهة ما تعتبره خطراً إيرانياً.
وكانت إدارة ترامب قد شكلت، يوم 16 أغسطس/ آب 2018، مجموعة عمل، أطلقت عليها “مجموعة العمل الإيرانية” برئاسة براين هوك، مدير التخطيط في وزارة الخارجية، لتنفيذ هذه الاستراتيجية.
أما أهداف التصعيد الأمريكي ضد إيران فقدأعلنت الإدارة الأمريكية أنها لا تريد الحرب مع إيران؛ لكنها سترد “رداً سريعاً وحازماً” على “أي هجوم” قد تشنّه طهران أو أي من حلفائها على مصالح أمريكية.
من الواضح أن الهدف من التصعيد الحالي، هو جر إيران إلى طاولة مفاوضات تحت السقف الأمريكي. لكن ذلك لن يتم بالسهولة التي يتخيّلها ترامب، حيث تريد طهران مفاوضات بشروطها وعلى طريقتها، من خلال إعداد وإخراج يتناسب مع خطاب المقاومة والممانعة، تحدّده طهران نفسها.
ما يقوي موقف طهران هو السلوك الأمريكي مع كوريا الشمالية، حيث درست طهران تلك التجربة واستوعبت دروسها، فلا تنازل إلا مقابل تنازل، وهذا يعني سلسلة من المساومات قد تطول أكثر مما يتصوّر الأميركيون، والإيرانيون بارعون في مجال المناورة والمماطلة.
تدرك الإدارة الأمريكية أن كل القوى الدولية، من روسيا والصين إلى الاتحاد الأوروبي ومعظم أمريكا اللاتينية وأفريقيا، لا تحبذ سياسات دونالد ترامب بل تمقتها وترفضها عموماً.وتعلم طهران أن حظوظها، أمام هذا الحجم الهائل من القواعد والمعدات والترسانة الأمريكية، في أية مواجهة عسكرية مباشرة مع أمريكا ضعيفة جدا، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الحصار وأثر العقوبات الاقتصاديّة المتراكمة على إيران، فإن الحرب لا يمكن أن تكون خيارا واقعيّاً لدى القيادة السياسية الإيرانية بشقيها المحافظ والإصلاحي.
غير أن هذه المعادلة العسكرية غير المتوازنة لم تمنع طهران من إظهار قدراتها على إرباك خصومها ومفاجأتهم بطرق وأساليب وتكتيكات لم يتحسبوا لها، منها ما نسبه كثيرون لطهران من تنفيذ هجمات على السفن التجارية في الخليج أو تحريض الحوثيين على ضرب خطوط البترول في العمق السعودي.
في المقابل، تعلم طهران جيدا أن رفض النهج الأمريكي لن يجلب لها دعما وتأييدا من أعداء واشنطن، أكثر من الشجب والاستنكار. لكنها ربما تتوهّم بأنها قادرة على تجيير بعض المواقف الدولية لمصلحتها، وقد تتوهّم أنه يمكنها أن تخرج قوية ومنتصرةً في مواجهة عسكرية محدودة إذا حصلت، اعتمادا على امتداد أذرعها وتعدد خياراتها الممتدة على رقعة جغرافية تشمل منطقة الشرق الأوسط وجزء من أفريقيا، مما يمنح الايرانيين قدرة إضافية على المبادرة والمفاجأة.
رغم تصريحات الطرفين الأمريكي والإيراني التي تشير إلى عدم الرغبة في الحرب، فإن الإيرانيين يحاولون إظهار أنهم على أهبة الاستعداد للحرب، وأن لديهم مفاجآت تربك الخصوم. مقابل ذلك ترد أنباء عن استعدادات أمريكية ممنهجة للحرب، منها وصول المستشفى الحربي الأمريكي Mercy Class الذي يضم 1000 سرير إلى الخليج، والتدابير العسكرية والأمنية ورفع الجاهزية للقوات الأمريكية الموجودة في المنطقة، فهل تحدق المبارزة بين الجبروت الأمريكي والدهاء الايراني؟
أدى الإنفاق العسكري غير المتوازن مع الموارد دوراً سلبياً على النمو الاقتصادي، حيث ارتفع معدل التضخم من معدل 11.9 % عام 2014 الى 34.9 % عام 2018. كما ارتفعت نسبة البطالة إلى 25 % من عدد السكان ، بينما يعاني 40 مليون إيراني من العيش تحت خط الفقر؛ أي نصف عدد السكان في بلد يمتلك 10 في المئة من احتياط النفط في العالم.
ارتفعت الميزانية العسكرية في ايران عام 2018 بنسبة 33 % قياسا بعام 2017، بينما انخفضت ميزانية الصحة بنسبة 23 في المئة، كما انخفضت ميزانية التعليم إلى 8.4 في المئة من إجمالي ميزانية البلاد.
كما بلغ العجز في الموازنة العامة لعام 2018م التي عرضها الرئيس الإيراني أمام البرلمان بنسبة 28 في المئة، وما تزال ميزانية عام 2019 التي كان من المقرر إرسالها إلى البرلمان الإيراني قيد المشاورات من أجل تغييرها بناء على “إصلاحات” خامنئي.
وتدنى سعر صرف العملة الايرانية ليصل إلى أقل مستوياته على الإطلاق، حيث خسر أكثر من 85 % من قيمته أمام الدولار ليصل إلى 43,166.90 تومان مقابل الدولار الواحد.
لعل السبب الرئيس فيما آل الوضع الاقتصادي في ايران، هو سيطرة الحرس الثوري على نحو 55 % من حجم الناتج القومي للبلاد، واستخدام هذه الأموال في دعم الميليشيات الطائفية المسلحة العاملة خارج إيران.
نجم عن ذلك تزايد الديون، وارتفاع الضرائب، وانخفاض إنتاجية القطاع الخاص، وتراجع معدلات الادخار والاستثمار، ما دفع الشعب الإيراني للخروج للشوارع تعبيرا عن سخطه واحتقانه الداخلي في مظاهرات غاضبة عمت قبل أشهر معظم المدن الإيرانية.
لولا الدعم الإيراني لسقط نظام الأسد، عبارة طالما كررها المسؤولون الايرانيون. لا أحد يماري في أن الدعم الايراني لبشار الأسد هو الذي حال دون سقوطه، سواء كان هذا الدعم بالتدخل العسكري المباشر من خلال حزب الله والميليشيات الشيعية التي جلبتها إيران من مختلف البلدان، أو من خلال الدعم الاقتصادي خصوصا فيما يتعلق بالإمدادات النفطية.
مقابل دعمها، وقعت ايران اتفاقيات كثيرة مع نظام الأسد، حصلت من خلالها على بعض المكتسبات المادية، لكن جميع هذه المكتسبات المستقبلية لا يمكن أن تغطي إلا الجزء اليسير مما أنفقته إيران نقدا في سوريا. خصوصا وأن نظام الأسد قام بتوقيع بيع / إيجار بعض المؤسسات الحكومية للروس والايرانيين بوقت واحد.
في المؤتمر الصحافي المشترك بين وزيري خارجية أمريكا وروسيا، بدا واضحا أن الطرف الروسي غير مكترث بالحشود والتهديدات الأمريكية ضد حليفه الاستراتيجي الايراني، ما أوحى بأن ثمة اتفاقا بين واشنطن وموسكو حول إيران.
اللافت أكثر، هو تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما ألقى باللائمة على إيران قائلا: “كان الأحرى بإيران أن لا تنسحب من الاتفاق النووي ونحن غير قادرين على إنقاذ الجميع” .. وتابع بقوله: “بمجرد أن تتخذ إيران الخطوات الأولى كرد فعل، وتعلن خروجها من الصفقة، في اليوم التالي سينسى الجميع أن الولايات المتحدة كانت هي البادئ بانهيار الاتفاق، وسيتم إلقاء اللوم على إيران. والرأي العام، والعالم، سوف يتخذ اجراءات في هذا الاتجاه “.
وأضاف بوتين بأن “روسيا ليست فرقة إطفاء ونحن غير قادرين على إنقاذ الجميع”. وبدت الجملة الأخيرة بمثابة رسالة مفتوحة لواشنطن بأن موسكو على أتم الاستعداد لمقايضة طهران إن لزم الأمر.
إذا كانت واشنطن لا تريد الحرب فلماذا كل هذه الحشود العسكرية الضخمة وهذا الاستعراض للقوة ؟وإذا كانت إيران مستعدة للمفاوضات فلماذا لم تجلس على الطاولة حتى الآن؟وإذا كان الأمر يتعلق بصفقة القرن، فقد تم إنجاز القسم الأعظم منها، فهل يحتاج الجزء اليسير المتبقي، المتمثل بالإعلان عنها، لكل هذه الضوضاء؟ثمة عملية هندسة أمريكية تعيد ترسيم منطقة الشرق الأوسط تطبخ منذ فترة.. فهل بدأتها إدارة ترامب قبل تمام نضوجها؟
التصعيد الأمريكي من خلال سياسة العصا الغليظة يستهدف إجبار النظام الإيراني على الدخول في حوار مع الولايات المتحدة ولكن إدارة ترامب تريد هذا الحوار على طريقتها ووفق شروطها الاثني عشر التي أعلنها مايك بومبيو من قبل وتشمل الملفات الثلاثة وهى وقف برنامج إيران النووى وبرنامجها الصاروخي الباليستي ودعمها الإرهاب, وليس الحوار على طريقة أوباما, الذى ركز على إبرام اتفاق نووي هش والتغاضي عن الملفات الأخرى مثل الباليستي ودعم إيران للإرهاب.
وفي المقابل إن إيران لا تمتلك القدرات التي تخوّلها خوض حرب مباشرة مع واشنطن لا قبل لها بها، وليس لديها مصلحة في مثل هذا الأمر. تصريحات الطرفين عالية السقف، لكنها تأتي محمّلة بالتشديد على عدم وجود نية للاصطدام. في الشهر الماضي، عرض وزير خارجية إيران جواد ظريف -للمرة الأولى ربما في تاريخ إيران- التفاوض علناً مع الولايات المتحدة حول المحتجزين، في المقابل، أعلن ترامب عن نيته صراحة في التفاوض، مشيراً إلى أن الهدف هو الوصول إلى اتفاق نووي أفضل، وليس إلحاق الأذى بإيران، فهو يريد أن يراها دولة قوية باقتصاد قوي. أن الرسالة الواضحة هي أن أي خطوة في الاتجاه الخاطئ ستؤدي إلى حرب، سيكون الطرف البادئ هو المسؤول عنها، إدراك كلا الطرفين هذه المعطيات يجعل من احتمالات اندلاع حرب أمراً ضعيفاً -إلا إذا وقع أحد الأطراف بحسابات خاطئة- كما يجعل من المفاوضات مصلحة مشتركة للطرفين.
إن السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه بعد “استعراض” هذا الأسبوع، هو إلى أين تتجه استراتيجية “الضغوط القصوى” التي تمارسها الولايات المتحدة؟ إذ يبدو بوضوح أن الإيرانيين باتوا يشعرون بالضغط، ويبحثون عن طرق للرد عليه، منها ما أعلنته طهران، الأربعاء، حول عزمها على تعليق التزامات في الاتفاق النووي. إن إيران تعيش حالة ارتباك من مواقف الإدارة الأميركية، وما قاله سفيرها في الأمم المتحدة، مجيد تخت روانجي، دليل على ذلك. إذ لدى سؤاله عن مدى استعداد طهران للقبول بالجلوس مع الإدارة الأميركية الحالية لإعادة التفاوض، رد روانجي: “هكذا فجأة، يقول ترامب أنا لا أريد الاتفاق ولنجلس ونتكلم عن جولة جديدة من المفاوضات. ما هي الضمانات ألا يعود ويتراجع عن المفاوضات الجديدة؟”.
إن أي هجوم عسكري أمريكي مباشر يستهدف إيران يمكن أن يؤدي إلى اندلاع حرب متعددة الأطراف في المنطقة من غير المحتمل حصرها في نطاق قوات البلدين مع وجود قوى دولية وإقليمية من طرفي الصراع تدفع لمثل هذه المواجهات العسكرية.
فالتحليلات السياسية الغربية ترى أن الحرب على ايران ستكون المقدمة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط إن صعود إيران الجيوسياسي يعتبر أخطر وأهم تطور حدث في هذا القرن”. وفي الوقت الذي أكدت فيه استراتيجية الأمن القومي الجديدة للرئيس ترامب إيران من أهم التحديات للأمن القومي الأمريكي إلا أنها لم تتقدم بأية استراتيجية متماسكة تعرض فيها الخطوات لمواجهة الخطر الإيراني المتزايد في المنطقة.
على ترامب تقليد الرئيس رونالد ريغان الذي اتبع سياسة هجومية لإضعاف الإتحاد السوفييتي السابق. وقام ريغان من خلال هذه الإستراتيجية بدعم القوى المحلية المعادية للشيوعية حول العالم. واليوم على أمريكا دعم القوى التي تريد الإستقلال والتحرر من التأثير الإيراني. وعليه يجب أن تبقي الولايات المتحدة على وجود عسكري وتقديم دعم عسكري للقوى المحلية في العراق وسوريا.وهي بحاجة في الوقت نفسه لدعم حلفائها بالمنطقة خاصة الأردن و”إسرائيل” والتي يجب أن تعمل على احتواء الأعمال الإستفزازية التي تقوم بها إيران وجماعاتها الوكيلة. ومع ذلك فهذا الموقف الهجومي لن يكون كاف لاحتواء إيران فضلا عن تغيير مسار الأحداث.
ويجب على الولايات المتحدة الإعتراف بكل من العراق وسوريا واليمن ولبنان في الحالة التي هي عليها: كيانات مصطنعة فاشلة خاضعة للهيمنة الإيرانية. فقد استفادت طهران من انهيار “الخلافة” لكي تعزز قوتها على هذه الدول الأربع. ويرى ماكوفسكي أن الحفاظ على وضع هذه الدول في الشكل الحالي لن يخدم سوى إيران ولا شيء مقدس حول حدود هذه الدول التي رسمها على ما يبدو صانع خرائط مخمور ومعصوب العينين. وبالتأكيد فعدم احترام تنظيم “داعش” وإيران لهذه الحدود أظهرتا فوضوية وعدم أهميتها.
إن العراق وسوريا واليمن ولبنان ليست دولا قطرية بل هي كيانات مصطنعة في مرحلة ما بعد الحرب الأولى ونشأت من رماد الدولة العثمانية في تجربة ضخمة فاشلة قام بها قادة العالم”.فهذه الدول تتميز بانقسامات عرقية- طائفية كان يجمعها في إطار واحد حاكم ديكتاتوري أو عانت من الجرائم الطائفية. ومن هنا فضعف إيران نابع من اعتمادها على أنظمة قمعية تحكم مناطق تعاني من انقسامات عرقية- طائفية. وعليه فيجب على الولايات المتحدة استغلال مظهر الضعف هذا والتركيز ودعم القوى التي تعارض هيمنة إيران وترغب بالإستقلال عن عواصم بلدانها. وستكون النتيجة كونفدراليات مفتوحة أو دول جديدة تقوم على الحدود الطائفية الطبيعية.
وتقر التحليلات السياسية الغربية بصعوبة إعادة رسم العلاقات السياسية والحدود وعدم قدرة الولايات المتحدة الامريكية التحكم بالنتائج ولكنها تستطيع التأثير عليها. ومن هنا فهناك حاجة للتعمق في تاريخ كل بلد ودراسة المميزات الخاصة بها والتشاور مع الحلفاء قبل تبني هذه السياسة. ويضرب مثالا عن دعم قيام دولة كردية في العراق ووقف الدعم العسكري عن بغداد التي ستحكم فدرالية بدون كردستان. وبالنسبة لسوريا يمكن إقامة كونفدرالية عرقية أو دول منفصلة توازي قوة بعضها البعض: دولة علوية تهيمن عليها إيران على الساحل ودولة كردية في شمال – شرق البلاد ودولة عربية سنية في قلب سوريا. وحتى تظهر أمريكا أنها ليست معادية للشيعة فقد تقوم بتحسين علاقتها مع أذربيجان- الدولة ذات الغالبية الشيعية والعلمانية القريبة من إيران. ومن النتائج الجيدة لهذا المدخل هو أثره على إيران نفسها التي تعيش فيها أقليات ذات حجم كبير- كردية وأذرية مما سيضعف الدولة نفسها. وربما ناقش البعض أن هذا المدخل ليس عمليا ويؤثر على استقرار المنطقة ويمنح إيران فرصا جديدة. ويرد الكاتب على أن مسار المنطقة خطير وستواجه أمريكا عبء التكيف مع الحدود الجديدة والرد على العدوان الإيراني. ويرى الكاتب أن طهران ليست قوة هيمنة ترضى بالوضع القائم بل قوة توسعية ترغب بتدمير إسرائيل وهي الدولة الوحيدة التي لم يذكر الكاتب أنها بدون حدود وطموحاتها التوسعية اكبر من إيران. ويدعو الكاتب أيضا لمواجهة المشروع النووي الإيراني والصواريخ الباليستية التي قد تصل إلى التراب الأمريكي. ويمضي ماكوفسكي ليناقش عملية فكرته قائلا إن الدول المصطنعة قسمت أو فككت بنجاحات معينة، مشيرا إلى البوسنة والهرسك والإتحاد السوفييتي السابق وتشيكوسلوفاكيا. وتدار البوسنة تحديدا من خلال كونفدرالية. ويدعو الكاتب في النهاية ترامب لممارسة خراب جديد بالمنطقة في حربه مع إيران بمبرر أن البنية السياسة في الشرق الأوسط تخدم طهران ويجب على ترامب تفكيكها.
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية