لم أجد في معاجم السياسة تثبيتا لمصطلح “النأي بالنفس” الذي اعتاد استخدامه سياسيون وكتاب لبنانيون، ويرجع الفضل في “اختراعه” وتبنّيه إلى رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، نجيب ميقاتي، الذي يعتبره “معيارا أمثل في سياسة لبنان الخارجية”، موضحا أن “لا مصلحة للبنان إلا بأن ينأى بنفسه عن الكثير من المواضيع العربية، (إذ) تقضي مصلحته بألا يكون على عداء مع أي طرف عربي”. ويزعم بعض من اعتاد حضور جلسات ميقاتي التي كان يعقدها في دارته أنه كثيرا ما كان يردّد، وفي أكثر من موضوع، “أنا أنأى بنفسي عن …”. وبحسب هؤلاء، قد يكون نأي ميقاتي أحيانا في أمور صغيرة، وغير ذات تأثير، لكنه في وقوفه على الحياد يهدف إلى تحقيق أقصى استثمار ممكن من طرفي المعادلة معا، وتلك هي إحدى سمات رجل الأعمال الناجح. عَبَر هذا المفهوم الجديد حدود لبنان، فلاقى هوىً لدى سياسيين وناشطين وكتاب في معرض تناولهم وقائع وأحداثا عديدة، وآخر هؤلاء الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي أكد على ضرورة اعتماد لبنان هذا المفهوم “على نحوٍ صارم”، كي يتفادى الصراعات الإقليمية. وإذا كان “الحال من بعضه”، كما يقول أشقاؤنا اللبنانيون، فقد التقط خيط “النأي” السحري رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، معلنا تبنّيه الموقف من الصراع بين الأميركيين والإيرانيين، على وقع أن الطرفين يتبادلان اليوم التهديدات مقدمة لحربٍ جديدة في منطقة الخليج، يكفي عود ثقاب واحد لإشعالها، حرب لو وقعت فسوف تكون ساحتها الرئيسة العراق، إذ يصل عدد العسكريين الأميركيين هناك، بحسب السيناتور ماركو روبيو، إلى خمسين ألفا، يتحشّدون في أكثر من عشر قواعد موزعة على مناطق البلاد، ولم تُخف قيادات إيرانية ومليشيات عراقية مرتبطة بالقرار الإيراني أنها ستوجه ضرباتٍ إلى تلك القواعد، في حال نشوب الحرب المحتملة. وقطعا، سوف تكون حصيلة تلك الصدامات على
“يصل عدد العسكريين الأميركيين في العراق، بحسب السيناتور ماركو روبيو، إلى خمسين ألفاً” أرض العراق مزيدا من الخراب والدمار، يضاف إلى ما خرب ودمر في الحروب التي خاضها العراقيون على امتداد العقود الأربعة الأخيرة.
بالطبع، قد يحمد عبد المهدي على موقفه الذي يحاول من خلاله الاقتداء بسير رجال الأعمال الناجحين الذين يهدفون إلى تحقيق أقصى استثمار ممكن من طرفي المعادلة معا، لكن الأمور ليست كذلك، فإن أقصى استثمار ممكن في الحال الماثل أن يطلب من أصدقائه الأميركيين الخروج من البلاد، أو على الأقل تقليص وجودهم العسكري وحصره في الجانب الاستشاري المحض فقط، وكذا أن يطلب من الأذرع “المليشياوية” أن تقطع خيوط علاقتها بنظام “الولي الفقيه”، إن كانت تمحض الولاء للعراق حقا. ولكن لا يبدو أن بإمكانه تبني مواقف “متطرّفة” كهذه، لأسبابٍ لم تعد خافيةً على أحد، واكتفى فقط بامتداح “علاقاتنا الجيدة بالطرفين”، وهي علاقات تبعيةٍ ورضوخ، وربما ولاء وحب عذري أيضا!
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر: هل لنا أن نستوضح هنا معنى أن يقف ناشطون وكتاب عراقيون في الصف المهلل للحرب، منطلقين من تمنياتهم في أن تنتقم لهم الولايات المتحدة من نظام طهران، جرّاء هيمنتها التي أتاحها الغزو الأميركي للبلاد؟ وهم بذلك يعملون على ترويج فكرة أن أميركا مستعدّة للتكفير عن خطيئتها بغزو العراق، عبر سعيها إلى إسقاط نظام ولاية الفقيه، أو على الأقل بتحجيم دوره في المنطقة، ومحاصرة تابعيه الذين يستأثرون بالحكم في بغداد، لكن هذا الترويج غير كافٍ وحده لإقناع الناس بأن واشنطن “جمعية خيرية”، مهمتها مساعدة من أخنى عليهم الدهر!
وإذا كانت مهمة السياسيين “وضع الأوهام في مكانها”، فإن عادل عبدالمهدي الذي استغرقته، على ما يبدو، نشوة تبنّي مفهوم “النأي بالنفس” في الصراع بين حليفيه، الأميركي والإيراني، حاول ارتداء بدلة رجل الدولة القوي والمسؤول، والحريص على مصلحة بلاده، من خلال زعمه أنه أبلغ الطرفين المتصارعين أن “العراق بلد قوي، ولا يريد أن يجري على أرضه أي صراع، سواء من منظمات ضد دول، أو من دول في ما بينها”!
وبالتأكيد، لا أميركا ولا إيران، وهما الدولتان المهيمنتان على القرار العراقي، مستعدتان لسماع مثل هذا اللغو من حكومة بغداد، ودعك عن أخذه على مأخذ الجد، لكنهما قد تعتبران ذلك كله مقصودا به الاستهلاك المحلي فقط، وكطريقة لمواجهة الخصوم في الداخل. أما ما تعملان له فهو ما سوف يمكث على الأرض، إلى أمد قد يطول.
العربي الجديد