كلما يبدأ الشروع في معالجة تداعيات العملية السياسية في العراق وما افضت اليه من صراعات طائفية وانقسامات مجتمعية، يجد نوري المالكي نفسه مندفعا للوقوف بوجه اية مقترحات عملية بهذا الصدد، ففي اثناء اجتماع الرئاسات الثلاث الذي عقد في 1/7/ 2015 وطرحت فيه موضوعات مهمة تتناول الوضع السياسي والأمني، وتطورات المواجهة مع تنظيم “الدولة الاسلامية”، وبعد ان قدم فؤاد معصوم رئيس الجمهورية ورقة لتفعيل المصالحة الوطنية، والعمل على تحقيق الاصلاح السياسي دون ابطاء من خلال اجراءات وقرارات شجاعة، تسمح بتطوير علاقات تفاهم وتعاون لحل المشكلات وترميم اللحمة الوطنية، كان رد المالكي حاسما، بقوله “المصالحة قد تحققت، ونحن من قمنا بها.”
قال هذا الكلام بوضوح امام المجتمعين من الرئاسات الثلاث، مؤكدا انه قد اسهم بتشكيل مجالس الإسناد في عام 2007، والتي تضم العشائر العراقية الراغبة في الانتماء لها، والاسهام في مساعدة القوات الأمنية لاسيما في سنوات العنف الطائفي.
ويقول احد الذين كانوا في الاجتماع، ان احدا من الحضور لم يرد عليه – وهو امر يعكس ضعفهم- مصراً على عدم اختزال الاوضاع الامنية بالمصالحة الوطنية، فالحاجة اليوم من وجهة نظر المالكي تتطلب تركيز الجهود على مقاتلة “الدولة الاسلامية”، وما عداها تعد امورا ثانوية.
والمالكي، الذي يقف متصديا للمصالحة الوطنية، يدرك ان ميليشيات الحشد الشعبي تساند موقفه هذا ومن ورائها إيران، فهو احد الحلفاء الذين نجحوا في تعزيز الهيمنة الايرانية في المنطقة، وتمكنوا من توطيد قوتها، ليسيطروا على مؤسسات الحكم في البلدان التي يتواجدون فيها. ومن جانب آخر فان مواقفه الرافضة لتحقيق التوازن السياسي وتسليح السنّة، ليست الا تحصينا للموقف الإيراني في مواجهة الضغوط الأمريكية والدولية.
والامر الملحوظ في تجربة الحكم إبان السنوات الثمان التي تولى فيها المالكي منصب رئيس الوزراء، هيمنته على المؤسسات الرسمية، وانفراده بالسلطة كليا، وممارسة سياسة إقصاء السنّة، وتحجيم دورهم، وتشكيله طبقة سياسية سنّية ارتبطت مصالحها الضيقة بنهج المحاصصة، تتحرك باتجاه البوصلة الحكومية، فضلا عن إثارته المشكلات مع الكرد. وقد ساعدت سلوكياته العدوانية على تمهيد الأرضية للتطورات التي شهدتها الشهور القليلة الماضية، والتي تمكن خلالها تنظيم “الدولة الإسلامية” من الاستيلاء على أجزاء كبيرة من المناطق من العراق. وبذات المعنى، فان إزاحة نوري المالكي عن رئاسة الحكومة، والذي حكم بعقلية زعيم طائفي وليس رئيسا لوزراء العراق، حملته على اعاقة عمل الحكومة الحالية، وتقويض فرص نجاحها، وإظهارها بمظهر الحكومة الضعيفة.
لكن التوصل إلى حلول سياسية لأزمة العراق، هو امر لن يستطيع أي رئيس وزراء عراقي تحقيقه خلال مرحلة وجيزة، وحتى لو اتخذ رئيس الوزراء حيدر العبادي مواقف وسطية وحكيمة، فان اصلاح الضرر لن يكتب له النجاح في ظل تفكك الدولة وهيمنة الميليشيات على ارادة القتال وصنع القرار في البلاد.
مع ذلك، تدور المشكلة السياسية، التي كان المالكي المتسبب الرئيس فيها، حول غياب الثقة بين الفرقاء السياسيين، ومعادلات التربص للايقاع بالآخر، دللت عليها تهم الارهاب التي طالت الساسة السنّة دون غيرهم، وصولا إلى المزيد من تركيز السلطة بيد الشيعة بدلاً من تقاسمها بشكل أوسع مع شركاء العملية السياسية.
وفي ذات الاتجاه، فان المالكي يستغل منصبه السيادي الحالي نائبا لرئيس الجمهورية، للتخطيط وتنفيذ أجندات سياسية ذات انعكاس امني بهدف احداث فوضى وتعميق الفجوة الطائفية. إذ وصف أخيراً في كلمة له ما يشهده العراق اليوم بأنه “ثورة طائفية، سنية ضد الشيعة”، الأمر الذي اعتبرته قوى سياسية عدة تحريضاً على الطائفية في البلاد، في محاولة منه لخلط الأوراق، وزعزعة المشهد السياسي والأمني.
ويتصل ما تقدم، باصراره على الوقوف بوجه تفعيل المصالحة الوطنية، رغم الحاجة الملحة إلى تحقيقها بأسرع وقت ممكن، لأن معظم ما تعانيه البلاد الآن إنما يعود إلى عدم تفعيلها، وقد ابدى المالكي معارضة حيال ربط مشروع المصالحة برئاسة الجمهورية، رغم كونه جزء من مؤسسة الرئاسة، بعد ان كانت المستشارية الخاصة بالمصالحة تابعة لرئاسة الوزراء على عهده.
وما يفسر موقف المالكي الرافض للمصالحة، طموحاته التي يجري الحديث عنها لجهة العودة إلى رئاسة الوزراء، فمعظم أعضاء مستشارية المصالحة الوطنية كان قد جاء بهم المالكي نفسه وممن ياتمرون بأمره. اضف الى ذلك فان علاقاته الشخصية والحزبية، وكتلة دولة القانون في البرلمان، وسطوته على الائتلاف الشيعي، والتي تدعمها إيران، ستحد من قدرة العبادي على صنع السياسة دون تدخلات او ضغوط، وتجعل من قراراته موضع نقاش او رفض، ما تضطره إلى الرضوخ، إلى رغبات المالكي الغريم- الشريك.
وبحسب ما تقدم فان اياد علاوي، وعلى خلفية جذور الخلاف بينه وبين المالكي، والتي تعود إلى نتائج الانتخابات العامة التي جرت في السابع من مارس/آذار 2010، سيكون بموقف المتفرج ليس الا وقد سحب من بين يديه الملف الذي نصبّه نائبا لرئيس الجمهورية، وهو الامر الذي تحرص إيران على تضع علاوي فيه، ليكون حضوره السياسي من الناحية الشكلية فحسب.
سلوك المالكي ومواقفه المناوئة للحكومة من شأنها اثارة صراعات مستقبلية، محورها التطرف والطائفية، ليكون فرض السلم المجتمعي والتعايش في العراق من جديد مجرد حلم ليلة صيف.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية