في أعقاب الحرب العالميَّة الأولى اتفقت روسيا القيصريَّة والمملكة المتحدة وفرنسا على التصدي إلى طموحات الإمبراطورية العثمانيَّة، بتقسيم المشرق العربي وفقاً لمصالح الدول الثلاث، وتقديم وعود إلى سكّانها العرب، أو التوصّل إلى تفاهمات بين كبار العائلات تؤمن مكانتهم في سياق دول وطنية، ترسم الدول الثلاث حدوداً لها، وتوفّر لها ضمانات الاستقرار على المدى القصير.
ثم اندلعت وتفجَّرت الثورة الروسيّة قبل أن يدخل هذا التفاهم السري حيز النفاذ، واتجهت روسيا اتجاهاً آخر تماماً، فانتهزت فرنسا وبريطانيا الفرصة لتقسيم غنائم المشرق فيما بينهما، وزادت أطماعهما وطموحاتهما، بل تخلَّت وخالفت الدولتان وعودهما للدول العربيَّة، ولم تلتزما بالحدود المقترحة وفقاً لاتفاق (سايكس بيكو)، والمسمّى على أسماء مسؤوليهم المعنيين بهذا المخطط، وتطوَّرت الأمور، وأصبحت أكثر إجحافاً على حساب العرب وحقوقهم بعد صدور (وعد بلفور) المأساوي، الذي ما زالت المنطقة تتحمل تداعياته حتى يومنا هذا.
بعد مرور قرن على اتفاق (سايكس بيكو) عقب الحرب العالمية الأولى، نجد أن المشرق يُقسّم جيوبوليتيكياً على حساب العرب مرة أخرى، من حيث الممارسات ومناطق النفوذ، بإضعاف في مكونات الدولة العربية الوطنية ونفوذها حتى إذا لم تتغير الحدود الدولية جوهرياً. هذه المرة فرنسا وبريطانيا ليستا طرفاً أساسياً في التقسيم، بل الغربُ غائبٌ تماماً عن ذلك، عدا دور أميركي محددٌ في دعم إسرائيل.
يشهد المشرقُ الآن إعادة ترتيب مرة أخرى لصالح عدد من الدول الشرق أوسطية غير العربية، على رأسها تركيا وإيران وإسرائيل بشكل خاص، وهو تطوّر بالغ الأهمية والخطورة على المدى البعيد، لأنه يثبت حقوق وممارسات للدول الثلاث داخل حدودهم وعبر تلك الحدود إلى داخل أراضٍ عربية، ومن شأن كل ذلك أن يكون له تأثيرٌ واسعٌ ليس فقط في المشرق العربي، إنما في الخليج وشمال أفريقيا كذلك، خصوصاً أن الدول الثلاث تفرض نفوذها باتخاذ إجراءات على الأرض، وليس من المبالغة القول إن هناك مصلحةً مشتركةً بين الدول الثلاث في تمييع الهُوية العربية الغالبة في المنطقة رغم التباين القائم بينها حول أمور أخرى.
وإذا كان الحق العربي المسلوب عنصراً متكرراً بين المرحلتين، والأطراف غير العربية المستفيد الأول من كل ذلك، فمن المستجدات الملفتة للنظر والجديدة أن روسيا أصبحت الآن الطرف الدولي الرئيس والأكثر فعالية في مواءمة الترتيبات المستحدثة، وفقاً لمصالحها الخاصة التي تتفق بين الحين والآخر مع الأطراف غير الغربية والعربية، حسب الموقع والظروف والحدث.
وأصبحت الاتصالات الشرق أوسطيّة الروسيّة متعددة، وتشمل حتى حلفاء الغرب وأميركا، والزيارات المتبادلة للرئيس بوتين ووزرائه مع مختلف الأطراف الشرق أوسطية وصلت إلى معدلات ومستويات لم نشهدها طوال القرن الماضي، كان ذلك مع نتنياهو الذي يمثل اليمين الإسرائيلي، أو أردوغان الذي يمثل التيار السياسي الإسلامي، أو إيران رغم تطبيق عقوبات أميركية ضدها، وكذلك مع الدول العربية بما فيها منطقة الخليج.
هذا ولم تتردد روسيا في ترتيب كثير من القمم الثلاثية مع إيران وتركيا حول سوريا دون وجود طرف عربي، وتسعى روسيا في المشرق إلى التوصّل لتفاهمات بين تلك الأطراف غير العربية لعدم التصادم أو خروج التوترات التقليدية عن الحدود، التي يمكن السيطرة عليها، وذلك من خلال ترتيبات للتعامل العسكري التي لا يتم تجاوزها إسرائيلياً أو إيرانياً، وقد شهدنا عمليات عسكريَّة إسرائيليَّة وإيرانيَّة متكررة، إنما بأسلوب يوحي بوجود حدود مرئية لا يتم تجاوزها، وتستثمر روسيا الأوضاع لضبط الإيقاع والتوتر في جنوبي حلب وشمالي إدلب في تعاملها مع تركيا، في محاولة مستمرة لبث الفرقة بينها والغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، إنما دون صدامٍ مع الآخر، ويشارك مستشار الأمن القومي الروسي مع نظيره الأميركي الإسرائيلي في اجتماعات بإسرائيل حول الأوضاع الإقليمية قد تليها لقاءات بين الدول الثلاث على مستوى القمة.
وتعلم روسيا جيداً أن تلك التفاهمات ستكون لها انعكاسات مختلفة في ساحات وقضايا شرق أوسطية أخرى، في المنافسة العربية الخليجية الإيرانية، وفي الأوضاع باليمن التي تدعو روسيا فيها إلى ضبط النفس، وبالنسبة إلى النزاع العربي الإسرائيلي وقد اقترحت استضافة الأطراف المتنازعة لمباحثات تحت رعاية روسية، وحتى في شمال أفريقيا، وتحديداً في الساحة الليبية التي أصبحت فيها أكثر نشاطاً ووضوحاً، فضلاً عن تداعياتها على أمن البحر الأحمر وشرق أفريقيا، لذا نجد نشاطاً دبلوماسياً كبيراً من روسيا بمعدلات فاقت بكثير ما وصلت إليه حتى في أثناء الحرب الباردة وفي قمة ونشاط ونفوذ الاتحاد السوفييتي، وحتى خارج الشرق الأوسط أظهر النشاط الروسي جلياً مع كوريا الشمالية، وفي فنزويلا.
وأجد الموقف الروسي الحالي أكثر تحضراً من موقف بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، لعدم وجود مؤشرات واضحة أن روسيا تؤيد أي تعديلات حدوديَّة، لذا لا أصف ما يحدث على أنه سايكس بيكو روسيّا، إنما غنيٌّ عن التنويه أن الدور الروسي يرمي إلى تحقيق مصالح روسية محددة، منها استعادة مكانتها السياسية عالمياً، وتوسيع نطاق علاقاتها الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط، وفضلاً عن تأكيد وضع روسيا، وثقلها كطرف رئيس في خريطة الطاقة والغاز العالمية، خصوصاً في الساحة اليوروالآسيوية المتصلة بشرق البحر الأبيض.
ومن هذا المنطلق، نشهد الآن مرحلة جيوبوليتيكية وعملياتية جديدة، تأخذ مكان نظيرتيها البريطانية الفرنسية، تأميناً لأهداف ومصالح روسيّة، تجعلها تتدخل في مواءمات وصفقات إقليمية وعالمية مع دول أخرى، وقد يدفع العرب في الشرق الأوسط الثمن غالياً فيها مرة أخرى، نظراً إلى سلبياتهم، ولترددهم في أخذ زمام المبادرة الإقليمية، وتحديد مصائرهم بأنفسهم؟