يتحدث كتاب المؤرخ التركي، إلبير أورتايلي، عن تفاصيل هامة ومؤثرة في حياة الزعيم مصطفى كمال أتاتورك، منها أن الرجل الذي سيصبح رمزاً وطنياً كبيراً لدى الأتراك واجه أول امتحان فعلي في حياته في طرابلس الغرب في ليبيا، وكان في حينها ضابطا شاباً. وهناك خسر الأتراك المعركة أمام الإنزال البحري الإيطالي على السواحل الليبية، قبيل الحرب العالمية الأولى، وكانت تلك الخسارة بمثابة الصاعقة للعسكري الشاب الطموح، المسكون بمشاعر قومية. وأحد أسباب صدمة أتاتورك أن الإمبراطورية العثمانية لم تتمكّن من الدفاع عن حدودها البحرية في ليبيا، في وجه أضعف قوة أوروبية في ذلك الحين، إيطاليا التي كانت في مرتبة بعيدة بعد بريطانيا وألمانيا وفرنسا.
كانت تلك الهزيمة الدرس الأول لهذا العسكري الشاب الذي بدأ يفكر في دورٍ كبير يلعبه، في وقتٍ كانت تلوح فيه نذر انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتبرز عليها بوضوح كبير علامات الشيخوخة. وبعد أن خسرت تركيا معركة طرابلس، عاد أتاتورك إلى إسطنبول، ولكنه لم يمكث طويلاً حتى تم تعيينه ملحقاً عسكرياً في العاصمة البلغارية صوفيا عام 1913 التي كان يتولى السفارة فيها أحد أصدقائه. وفي ذلك الوقت، كانت بلغاريا أكثر من حليف لتركيا، وبلدا تربطه مع تركيا أواصر متينة جدا، ولذا لم يكن لدى أتاتورك كعسكري عمل كثير، بل وجد متسعا من الوقت للتعرّف على المجتمع والأوساط الدبلوماسية والثقافية، وكانت المرة الأولى التي يرتاد فيها دار أوبرا، ويتفرج على هذا النوع من الفن الذي لم تكن تعرفه تركيا إلا في نطاق ضيق على ما يبدو.
خرج أتاتورك من أحد عروض الأوبرا وهو في غاية الغبطة، على الرغم من أن بلاده كانت تعيش مرحلة حرجة جدا، ولم تكن قادرةً على مواجهة التراجع الذي تشهده، والخسارات الكبيرة للأراضي التي تسيطر عليها، ولكن أكثر الدروس بلاغةً لأتاتورك أنه حدّد سبب الخسارة أمام أضعف قوة عسكرية أوروبية، أي إيطاليا التي لم تكن تمتلك بحرية بريطانيا أو جيوش البر الفرنسية والألمانية. ومصدر غبطة أتاتورك، بعد حضوره العرض الأوبرالي “روسيني” أنه اكتشف أن سبب تفوق إيطاليا على تركيا هو الأوبرا. وقد ساهمت هذه الحادثة، حسب المؤرخ، في استضافة رئيس الجمهورية التركية، أتاتورك، شاه إيران، على عرض أوبرالي.
لم تكن الأوبرا فناً حديثاً، ولكن أتاتورك رأى فيها أحد مصادر النهضة الإيطالية التي كانت فاتحة النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر، والتي سبقت النهضة الأوروبية بقرن. وهنا يسجل لذلك العسكري الشاب هذا الاكتشاف الذي التقط من خلاله أحد أسرار قوة الأمم، الأمر الذي نلحظه في إيطاليا التي ظلت متألقةً، بفضل النهضة الثقافية، على الرغم من النكسات التي عاشتها على مر الأزمنة، وهو ما يفسر، إلى حد كبير، بقاء إيطاليا بين الأمم الحية بفضل التراث النهضوي التنويري الكبير الذي تغذت منه عدة قرون.
ويسجل المؤرخ جملة من النقاط الهامة التي شكلت وعي أتاتورك السياسي، ويعزوها إلى فهم مشكلات التغير الثقافي، ومن ذلك التوجه إلى استخدام الأحرف اللاتينية، وبناء المؤسسات الثقافية للعالم الحديث، وهذا كان بمثابة الأرضية التي تأسست عليها الإصلاحات التي عرفتها تركيا، بعد أن خلعت عباءة الإمبراطورية، وصار اسمها تركيا، قبل أن تحقق استقلالها السياسي على القسم الأكبر من الجغرافيا الحالية. ولكن المؤرخ يستدرك في وقفةٍ لافتةٍ ليفند الشعار الذي رفعه بعض المؤرخين “دولة جديدة، وطن جديد، وأمة جديدة كليا”. ويقول إن هذا التقييم بعيد عن الصواب، فلا الوطن جديدـ ولا الأمة جديدة، والجديد هو الدولة فقط. وعلى الرغم من كل شيء، لم ترفض الدولة الجديدة الميراث القديم والتقاليد، وهذا ما يسجل لتركيا اليوم من عقلانية واعتدال.
العربي الجديد