تعرّض معسكران للحشد الشعبي في العراق لقصف بطائرات مسيّرة، الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وفيما نفت الولايات المتحدة مسؤوليتها، وبينما لا يمكن، بأي حال، استهداف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هذه المعسكرات، بعد أن تضاءل وجوده، حامت شكوك حول إسرائيل، في تنفيذ الضربات التي أدت إحداها إلى مقتل ضابط كبير في الحرس الثوري الإيراني، بينما التزمت الحكومة العراقية الصمت، ولم تدل سوى ببيان يتيم يُشكل الأمور أكثر مما يوضحها. وفي الأثناء، نقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية عن مصادر إسرائيلية قولها إن إسرائيل هي من يقف وراء تلك العمليات التي استهدفت مواقع للحشد الشعبي في آمرلي في محافظة صلاح الدين (شمال بغداد)، ومعسكر أشرف في محافظة ديالى، لتكون بذلك، إن صحت الرواية، المرّة الأولى التي تصل فيها نيران إسرائيل إلى العراق منذ تدمير مفاعل تموز النووي عام 1981.
يقول مدير مركز الشرق الأوسط للأخبار والتحليل، والباحث في معهد القدس للإستراتيجية والأمن؛ جوناثان سباير، إن المسؤولين الإسرائيليين ظلوا صامتين إزاء أنباء عن أن إسرائيل هي التي نفذت الغارتين، مؤكّدا أن إسرائيل وحدها التي يمكن أن تنفذهما، والجهات الأخرى المحتملة في مستوى أقل من إسرائيل هي تنظيم الدولة الإسلامية والولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة. وهذا التحليل هو الأقرب للواقع، خصوصاً أن لدى إسرائيل رغبة ملحة في تدمير مقدّرات إيران وحلفائها، ليس في سورية فحسب وإنما في العراق أيضاً، فبعد أن كانت مواقع الحرس الثوري الإيراني في سورية أهدافا مفضلة لتل أبيب طوال السنوات الماضية، دخل
“لدى إسرائيل رغبة ملحة في تدمير مقدّرات إيران وحلفائها، ليس في سورية فحسب وإنما في العراق أيضاً” العراق، على ما يبدو، في قائمة الأهداف الإسرائيلية لإضعاف الوجود العسكري الإيراني، في ظل تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران.
لدى إيران نفوذ عسكري كبير في العراق، يضاهي، في أحيانٍ كثيرة، وجودها السياسي والاقتصادي، وحتى الاجتماعي والديني، بنته طوال أعوام من الفوضى التي أحدثها الاحتلال الأميركي عقب 2003، والذي وجدت فيه إيران فرصتها التاريخية لتضع يدها على مقدرات العراق، خصوصا بعد الانسحاب الأميركي غير المدروس من العراق بين عامي 2010 و2011. ولإيران في العراق فقط أكثر من 120 ألف مقاتل، ينتمي معظمهم لمليشيات الحشد الشعبي التي تشكلت عام 2014 إثر احتلال “داعش” مدينة الموصل، قبل مأسسة هذه المؤسسة العسكرية الكبيرة وعدّها قوةً حكومية يشرف عليها، على الأقل نظرياً، القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء العراقي.
القدرات العسكرية والمالية لهذه المؤسسة كبيرة، تتلقى دعماً كبيراً من إيران، بحكم ولاء المليشيات المعلن للمرشد الإيراني الأعلى، كما أنها تتلقى ميزانيةً سنويةً من الحكومة العراقية. بالإضافة إلى هذا وذاك، تملك المليشيات سطوة مجتمعية أكبر بكثير من سطوة الأجهزة الأمنية الأخرى، فهي، في أحيانٍ كثيرة، فوق القانون، ولا يمكن لأحد أن يجرؤ حتى على محاسبة المسيء فيها، وهي التي ارتكبت جرائم بحق سكان المناطق التي كانت خاضعة لمسلحي “داعش”. وتكفي هنا الإشارة إلى منطقة جرف الصخر في جنوب العاصمة بغداد التي قامت تلك المليشيات بتهجير آلاف من أبنائها وتغييبهم، وإعلان سيطرة الحشد الشعبي عليها، بل وتحويلها منطقة مغلقة، لا يمكن لأي مسؤول عراقي، مهما علا شأنه، أن يدخلها أو يعرف ما يدور فيها، بحسب نائب عراقي، وهي المنطقة التي يقال إن الطائرات المسيّرة التي استهدفت أنابيب نفط سعودية قبل نحو شهرين، وتبنّتها جماعة الحوثي، إنما انطلقت منها، كما أشارت واشنطن في وقت سابق.
تلتزم الحكومة العراقية الصمت إزاء استهداف معسكرات الحشد من طائرات مسيّرة إسرائيلية، وهي على ما يبدو تملك كل الأدلة على قيام إسرائيل بذلك، خصوصا أن العمليات كانت دقيقة، وأدت أيضا إلى تدمير مخازن أسلحة ثقيلة. لماذا التزمت الصمت الذي لامتهم عليه حتى حليفتهم وداعمتهم، إيران، حيث كتب الصحافي الإيراني، علي موسوي خلخالي، في مقال على موقع إيران فرونت بيج، إن “صمت بغداد على الغارات الإسرائيلية على الأراضي العراقية
“لإيران في العراق فقط أكثر من 120 ألف مقاتل، ينتمي معظمهم لمليشيات الحشد الشعبي” يثير الدهشة”.
تدرك بغداد جيداً أن الوضع لا يحتمل أو يتحمل مغامرة أخرى ضد إسرائيل قد تُغضب الولايات المتحدة التي يبدو أنها عازمة فعلياً على تقليص النفوذ الإيراني في العراق، وهو ما جاءت عليه تقارير إعلامية أميركية عن فحوى رسالةٍ حملها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى بغداد في مايو/ أيار الماضي، عندما طالب بغداد، علنا وصراحةً، بمنع إيران من نقل صواريخ إلى مليشيا الحشد الشعبي وإزالة الصواريخ الإيرانية التي في حوزة تلك المليشيات.
قد تكون سياسة المراوغة والانحناء للعاصفة التي تتخذها حكومة بغداد مجدية حالياً، ولكنها بالمطلق لن تكون كذلك في حال استمرّت الضغوط الأميركية على إيران، بمعنى أن على بغداد أن تنأى بنفسها عن إيران، وأن تعمل على انتهاج سياسةٍ أكثر عقلانية، تفكر بالعراق أولاً، خصوصا في أجواء إقليمية قابلة لتنمية العلاقات مع العراق، في حال قرّر المضي بسياسة النأي بالنفس. السؤال الأهم: هل تملك حكومة عادل عبد المهدي القدرة على اختيار هذا النوع من السياسة، وتجنيب العراق أن يكون ساحة مواجهة بين إيران وأعدائها؟
العربي الجديد