على منضدة خشبية تغطي جداراً كاملاً عند مدخل غرفة الجلوس، تفرد سامية خسرو 26 صورة لأقربائها الذين خرجوا ولم يعودوا منذ أكثر من 35 عاماً، وتوقد شموع الانتظار على غرار آلاف العائلات التي لا تزال تنشد مصير مفقوديها.
خسرو البالغة من العمر 72 عاماً، قالت “لغاية اليوم ننتظر تسلم عظامهم، عندها فقط يمكننا أن نقول إنهم ماتوا”.
أكثر من 100 مفقود
وتشير تقديرات حكومية إلى أن أعداد المفقودين بين الأعوام 1980 و1990، جراء القمع الذي كان يمارسه نظام صدام حسين، بلغت حوالى 1.3 مليون شخص. فمنهم من أُعدم، ومنهم من فارق الحياة في السجون، وآخرون غُيّبوا في ليالٍ حالكة.
ولسامية خسرو، التي كانت نائبة في البرلمان عام 2005، أكثر من 100 مفقود من العائلة، وتعتبر أن ذنب هؤلاء الوحيد أنهم كانوا ينتمون إلى دين وقومية معينة خلال تلك الحقبة.
سامية خسرو التي كانت نائبة في البرلمان عام 2005 تحمل صور أقربائها المفقودين (أ.ف.ب)
وتضيف “هل أنا قلت لرب العالمين أن يخلقني كردية؟ أو أن يكون مسقط رأسي العراق؟ أو شيعية؟ هذا ليس ذنبي، هذا إرث، فهل أُعاقب عليه؟”.
ويُذكر أنه إضافة إلى عمليات التغييب التي حصلت في بداية الثمانينيات، أقدم صدام حسين، الذي أُطيح نظامه عام 2003 بعيد غزو أميركي للبلاد، قبل أن يمثل أمام المحكمة بتهمة “إبادة”، على إعدام ما يقارب 180 ألف كردي في إطار عمليات “الأنفال” التي شنها بين عامي 1987 و1988.
موت القضية
خسارة النائبة السابقة مضاعفة. فزوجها سعدون أيضاً ضحية ذلك العهد، هو الذي خسر أخاً لم يسمع عنه شيئاً مذ كان شاباً، وآخر أُجبر على ترك البلاد قبل 45 عاماً، خوفاً من المجهول.
اليوم، تعرب خسرو عن خوفها من أن تموت القضية مع رحيل جيلها، وتقول وهي تكفكف دموعها التي لا تنضب “نحن سنرحل، لكن هل ستكون حرقة من يأتون بعدنا كحرقتنا؟ نحن عايشناهم وربيناهم على أيدينا”.
هذا الخوف تعززه مراوغة الحكومة في تناول هذا الملف، الذي يمكن التطرق إليه بشكل كبير اليوم في العراق، مع الهدوء النسبي الذي تعيشه البلاد بعد عقود من الحروب والعنف.
مقابر جماعية
ولا تزال القوات العراقية تعثر بين فينة وأخرى على مقابر جماعية في محافظات عراقية مختلفة كانت تحت سيطرة تنظيم داعش الذي احتل عام 2014 ما يقارب ثلث مساحة البلاد.
وتحوي تلك المقابر على ضحايا الحرب الإيرانية – العراقية أو الذين قُتلوا خلال غزو العراق للكويت.
وسلّمت السلطات العراقية إلى الكويت في الفترة الأخيرة رفات حوالى 50 شخصاً، لإجراء فحوص الحمض النووي بغية التأكد أنهم كويتيون.
وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو أن السلطات تسعى إلى بذل جهود كافية في هذا الإطار، إذ تشير خسرو إلى أنه من خلال عملها على ملفات أفراد عائلتها، اكتشفت غياب التمويل “حتى لمدير المقابر الجماعية، تخصيصاته المالية صفر دينار، وعليه، نحن اليوم نراهن على مساعدة المنظمات الدولية”.
مئات آلاف المفقودين
في هذا الصدد، تشير اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن العراق أحد البلدان الذي يضمّ أكبر عددٍ من المفقودين، فكلّ أسرة في العراق عملياً، إمّا لديها مفقود أو تعرف أُسراً فُقِد ذووها.
وتقول المتحدثة باسم المنظمة الدولية في العراق سلمى عودة لوكالة الصحافة الفرنسية إن “العدد يقدّر بمئات الآلاف، رسالتنا إلى الحكومة هي أن العائلات تستحق منكم بذل جهود إضافية لإغلاق هذا الملف، ربما يوماً ما”.
ألم مشترك
بعيداً من هوية المفقودين والطريقة التي فُقدوا فيها، يبقى الألم مشتركاً.
فلا تزال روناك محمد (63 عاماً)، تنتظر حتى اليوم زوجها الذي خرج للمرة الأخيرة في عام 1982، ولم يعد.
داخل منزلها في حي الأسرى والمفقودين، الذي يضم عائلات كثيرة فقدت ذويها، في محافظة كركوك شمال بغداد، تفتح محمد ألبوم صور باللونين الأبيض والأسود، وتعود بذاكرتها إلى يوم زفافها، قائلة “زوجي طُلب كاحتياط عندما كان يعمل في شركة نفط الشمال، خرج، ولم أستعد منه إلا ساعة يده وخاتم زواجنا”.
لم تسمع محمد أي خبر عن والد أطفالها الثلاثة منذ ذلك اليوم، علماً أن أحداً لم يؤكد مقتله.
لكن أكثر ما يحزّ في نفسها أن ابنتها التي كانت حينها تبلغ 20 يوماً “والتي لا تعرف والدها إلاّ من خلال الصور، تقول إنه يزورها في منامها”.
اختطفت من الباص
في الحيّ ذاته، أسكتت زينب جاسم ماكينة خياطتها إلى الأبد، يوم خسرت شريكتها، والدتها التي اختطفها تنظيم داعش عام 2014.
كانت بشرى تنقل ثياباً خاطتها إلى زبائنها في الحويجة، ومن المفترض أن تعود حاملة الخضر والفاكهة بما جنته، لكن القدر شاء عكس ذلك.
أنزلها الإرهابيون من الباص الذي كانت تستقله مع آخرين، واقتادوها إلى جهة مجهولة.
وتتابع جاسم “اتصلوا بنا، وسألونا إذا كانت أمي تنقل معلومات” عن التنظيم، يومها عرفت العائلة أن الوالدة خُطفت.
تخنق العبارات جاسم وهي تستذكر أن حينها كان عيد الأضحى، وتقول “العيد ثلاثة أيام، لم نحتفل به، كنا نتأمل ونقول ربما ستعود غداً… ربما ستعود في العيد”.
اندبندت العربي