أظهرت قضية دخول عامر الفاخوري إلى لبنان برعاية أمنية وسياسية عبر مطار بيروت، أن ثمّة ريبة من تنسيق عالي المستوى من أجل عودة المتهمين بالعمالة لإسرائيل إلى لبنان.
مصدر الريبة لا يخل به، الضجة التي أثيرت مع عودة الفاخوري الذي كان مشرفا على معتقل الخيام الشهير خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي للبنان خلال عقد التسعينات، وهو من الذين صدرت بحقهم أحكاما غيابية من قبل المحاكم اللبنانية عشية الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000.
الاحتجاجات التي عبّر عنها الكثير من اللبنانيين الذين فوجئوا بعلاقات الفاخوري مع مسؤولين لبنانيين رسميين، أتاحت له الدخول عبر مطار بيروت قادما من الولايات المتحدة، ورافقه في خروجه من المطار أحد الضباط الكبار في جهاز المخابرات اللبنانية، وما كان ليكون هذا الدخول مثار ردود فعل، لو كان بقي طيّ الكتمان. فقد عمد بعض حلفاء حزب الله إلى تسريب خبر دخول الفاخوري، لأسباب سياسية داخلية تتصل باستياء هؤلاء من تنامي علاقة حزب الله ووزير الخارجية رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، إلى الحدّ الذي مكّن باسيل من إدخال الفاخوري برضا حزب الله، الذي رغم إحراجه، فإنه لم يقم بأي خطوة جدّية تكشف من كان يقف وراء دخول العميل الفاخوري إلى لبنان، واكتفى بإصدار مواقف مبدئية تتفادى أي مطالبة بمحاسبة المتورطين سياسيا في هذه العملية.
الريبة باتت أكثر من واقع، بل كشفت الوقائع السياسية والإعلامية، أن حزب الله لم يكن غائبا عن مشهد عودة الفاخوري وأكثر من مئتي متهم بالعمالة عادوا إلى لبنان، بواسطة التيار الوطني الحر.
ومنعا للالتباس فإن عودة أكثر من ثلاثة آلاف لبناني فرّوا إلى إسرائيل عشية التحرير عام 2000، هي قضية وطنية بالدرجة الأولى، إذ لا بد من بذل الجهود من أجل عودتهم، في سياق بعيد عن الصفقات الحزبية، وبما تقتضيه المصلحة الوطنية.
لكن ما يشهده هذا الملف هو أنه بات خاضعا لصفقات حزبية، هكذا يمكن تفسير الصمت الذي وقع به حزب الله، فلو كان المتورط في إدخال الفاخوري إلى لبنان خصما سياسيا لحزب الله، لكان الحزب وكبار مسؤوليه يتلونون آيات التخوين بحق من قام بهذه الفعلة، لا بل كان تحرّكَ باتجاه القضاء من أجل محاكمة الجهة السياسية التي عملت على العبث بالملفات الأمنية وقامت بإلغاء برقيات توقيف بعض العملاء، كل ذلك لم يحصل واقتصر التهديف على شخص الفاخوري دون النّيل من الذين أحاطوا به خلال عودته.
مقاربة هذا الملف تتم من زاوية حزبية، لا بل على أسس ترسيخ العلاقة الثنائية بين التيار الوطني الحر وحزب الله، وبتعبير أدق في سياق ترسيخ التحالف المسيحي – الشيعي بحيث لا يلحظ المراقب أيّ تدخل أو مساهمة فعلية من قبل الحكومة أو مجلس النواب في إمساك هذا الملف ومعالجته من زاوية وطنية لا تبدو فيها أنّ ثمة صفقة حزبية ولحسابات سياسية داخلية.
إذ ليس خافيا أن الوزير جبران باسيل إحدى أبرز الشخصيات المسيحية التي باتت تحظى بدعم حزب الله، بات يشكّل نافذة حزب الله اللبنانية على الخارج ونافذة الخارج الدولي والأوروبي على حزب الله، ما أتاح له أن يطلق مواقف هي أقرب ما تكون لرسائل تظهر أن حزب الله معنيّ بالاستقرار وعدم التصادم سواء مع إسرائيل، أو مع المصالح الغربية في لبنان والمنطقة. فباسيل اختار قبل أشهر إحدى محطات التلفزيون التابعة لإيران ولحزب الله (الميادين) ليعلن من خلالها عن حق إسرائيل بالأمن والاستقرار، وهو وإن آثار ردود فعل من قبل حلفاء حزب الله في لبنان، إلا أنّه لم يهزّ ثقة حزب الله به. وفي جولاته الأوروبية والأميركية، يحرص باسيل على تقديم حزب الله باعتباره حاميّا للأقليات، وضمانا لمحافظة لبنان على تنوّعه، وسدّا منيعا في وجه تمدد الجماعات الإسلامية أو تلك المسمّاة إرهابية. وينقل بعض المشاركين في مؤتمر الاغتراب الذي عُقد برعاية باسيل قبل أيام في نيويورك، أنّ وزير الخارجية يركّز في لقاءاته مع المدعوين من المغتربين ومن مسؤولين أميركيين، على أنّ التهديد الذي تتعرّض له الأقليات في المشرق يتطلّب أن تتعاون في ما بينها من أجل حماية التنوع الديني والإثني، وركّز على أنّ النموذج اللبناني وصمود الأقليات فيه، يتطلّب حماية الصيغة الحاكمة ومنع انهيارها.
وكما هو معروف فإن لبنان سيشهد منتصف الشهر المقبل مؤتمراً للجماعات الدينية والإثنية في المشرق العربي في بيروت سيكون برعاية رئيس الجمهورية ميشال عون، وهو على الأرجح سيشكّل إحدى وسائل ترسيخ حلف الأقليات في المنطقة، ويركّز على أهمية إيجاد مؤسسة جامعة تمثّل المكوّنات المشرقية، حسب التعبير الذي درج عليه التيار الوطني الحر في أدبياته السياسية، والذي ينطوي في جوهره على تظهير دور الأقليات التي تعاني من الأكثرية، فيما تتفادى هذه النظرة الإشارة إلى السياسات الدولية والأنظمة الأقلوية التي حكمت وتحكم ولاسيما في سوريا.
يمكن اختصار الحلف القابض على المعادلة اللبنانية، بأنه حلف على رأسه إيران، ويشكّل باسيل الذراع التي تمتد إلى دوائر القرار الدولي، في محاولة لإضفاء بُعد لبناني ومشرقي للنفوذ الإيراني، ويمكن رصد تراجع دور حلفاء حزب الله في الداخل اللبناني بل انكفاء هؤلاء الحلفاء الذين يفتقدون قدرة التسويق التي يقوم بها باسيل بدعم من رئيس الجمهورية لحلفه مع حزب الله لبنانيّا، ولحلف الأقليات إقليميّا، والذي لا يتناقض مع مصالح دولية وإسرائيلية. لذا ترتكز مهمّة باسيل في مشروع حلف الأقليات بالإضافة إلى مهمة بناء زعامة مسيحية على الشكل الآتي:
– دور خارجي لتسويق حزب الله كطرف قابل الانسجام مع المتطلّبات الدولية، لاسيما في موضوع التفاهم العميق مع إسرائيل من جهة، وكطرف حام للأقليات في مواجهة الإرهاب السنّي الذي يهدّد استقرار المجتمعات الغربية من جهة أخرى.
– وجه داخلي يتسم باستعداد حزب الله لمعالجة ملف اللبنانيين في إسرائيل، ومحاولة الترويج لكونه عنصرا إيجابيا في حماية التنوع تحت سقف التحالف بين حزب الله ورئيس الجمهورية.
لذا فانّ صعود دور جبران باسيل في المعادلة اللبنانية، يقوم على دعم حزب الله له من جهة، ومحاولة تثبيت موقع خارجي له، باعتباره إحدى أبرز قنوات التواصل مع حزب الله الموثوقة غربيّا من جهة ثانية.
العرب