استلهم عدد من منظري ودعاة الإسلام السياسي المقولات الشيوعية، خاصة العدالة الاجتماعية والمساواة، بغرض ملء الفراغ الأيديولوجي وصياغة نموذج إسلامي قادر على الإقناع. وحاول آية الله الخميني الذي قاد ثورة إيران سنة 1979، محاكاة الفكرة والمشروع بلباس ومظهر إسلامي بزعم أنه سينصف المستضعفين والمهمشين، ومنه استنسخ المصري الإخواني سيد قطب هذه الأفكار لتبييئتها على الساحة السنية، غير أن تجارب الحكم المختلفة سواء في إيران أو السودان أو العراق أو لبنان كشفت عن تهافت تأصيل المسألة الاجتماعية لدى التيارات الإسلامية، وهو ما تفطنت إليه الشعوب حاليا لتكتب عبر ثوراتها الهادرة فصلا جديدا في مسيرة الانهيار المتسارع للأيديولوجيات الإسلامية.
القاهرة – كشفت التظاهرات التي اندلعت في كل من العراق ولبنان، ثم إيران، أن نظام الملالي في طهران يعاني من أزمة هيكلية في خطابه الإسلامي، فبعد أن اعتمد على مناصرة المهمشين والتصدي لما يسمى بقوى الاستكبار، بات يمارس انتقائية واضحة في مواجهة التدفقات الجماهيرية التي تستهدف نظامه، ما يشكل خللا في المنظومة القيمية للثورة الإسلامية، وتتجاوز هذه المسألة الشق الشيعي، وبدأت تفضح خفايا بعض التوجهات في الشق السني أيضا.
وسجل الارتباك والخلط الأيديولوجي في سياسات الإسلاميين داخل هذين الشقين علامة متقدمة ضمن مسببات الثورة ضدهم، فهم لم يطرحوا منهجا واضح المعالم ولم يمهدوا سبلا جديدة في السياسة والاقتصاد، بل احتلت جماعاتهم مواقع الأحزاب القديمة المتهمة بالعجز والفساد مستغلة هياكلها لتحقيق مصالحها وبسط نفوذها.
ووظف عدد من منظري ودعاة الإسلام السياسي المقولات الشيوعية بغرض ملء الفراغ الأيديولوجي وصياغة نموذج إسلامي قادر على الإقناع، ومحاولة امتلاك نظرية تبدو في حالة تنافس مع الرأسمالية والشيوعية.
وبحسب مزاعم الملالي، بفضل الشيوعية التي أبهر انتشارها الإسلاميين، صار لديهم أمل في محاكاة الفكرة والمشروع بلباس ومظهر إسلامي، ومن منطلق حلم تأسيس دولة منطلقاتها فكرية استطاع شيخ معمم أن يؤدلج الثورة الإيرانية ويقود ثورة المستضعفين ضد طبقة رأسمالية متعفنة ونظام مستبد عميل للإمبريالية.
ولم يكن مفهوم العدالة الاجتماعية مركزيا في المنظومة الفقهية التي استمد منها المصري الإخواني سيد قطب أسس المشروع الإسلامي، لذلك يدين إسلاميو السنة لنظرائهم الشيعة بإسهامهم في توليد هذا المفهوم وتلوينه ضمن مسار نزع الشرعية من الفكر الشيوعي واجتذاب الملايين من المهمشين الذين تداعب أحلامهم فكرة العدالة والمساواة.
وعزى الإسلاميون السنة وعيهم المتأخر بمنطلقات هذا المشروع لا إلى الماركسية التي تُلح على أنها من اكتشفت طبيعة الصراع بين الطبقات في المجتمع، وأنها الوحيدة القادرة على طرح الحلول وتحقيق الانتصار على الرأسمالية، إنما للثورة الخمينية باعتبارها النموذج المُعلِم الذي استوعب الصراع الاجتماعي في إطار إسلامي ونجح في أسلمة المفاهيم الاجتماعية اليسارية.
الثورات المنادية بالمساواة والعدالة الاجتماعية وفرص العمل في إيران والعراق ولبنان أثبتت أن الإسلاميين لم يعبروا يوما عن انتظارات الشعوب وتطلعاتها
ونقل هذا التطور السنة إلى مستوى جعلهم يفكرون في التعاطي مع الشأن السياسي بأدوات جديدة ومتطورة؛ حيث لم يعد نقدهم للحكومات والأنظمة تكفيريا معتمدا فقط على أن الدولة لا تحكم بما أنزل الله ولا تلتزم بالشريعة وفق مقولات منظري الإسلام السياسي السنة المستندة لفكرة الحاكمية، إنما اتخذ الصراع أبعادا أعمق عبر تبني مقولات المواجهة بين المستضعفين والمستكبرين والفقراء والأغنياء، لكن في إطار إسلامي وبتوظيف النص القرآني الذي يَعِد المهمشين والمستضعفين بالتمكين في الأرض.
وهيمنت الأيديولوجيات الثورية الشيعية على عموم تيار الإسلام السياسي السني سواء ما يتعلق بمحاولات استنساخ الثورة الخمينية وتصوير انتفاضات الربيع العربي الأولى كأنها جاءت عن طريق الإسلاميين، أو نزع الثورات العربية من سياقها القومي الوطني ونسبتها للحركة الإسلامية كما فعل خامنئي عندما لم يذكر أثناء تطرقه إلى ثورة يوليو 1952 المصرية اسم الزعيم العربي جمال عبدالناصر، مشيرا فقط إلى سيد قطب كقائد وصانع لتلك الثورة.
وحاول السنة في أثناء ممارستهم للسلطة بالمنطقة العربية نقل نموذج الحكم الإيراني الذي يتمظهر بالشكل المدني وآليات الديمقراطية، وهو في جوهره قائم على مرجعية المرشد الديني وهيمنة سلطة التنظيم الأيديولوجي على مؤسسات الدولة.
ويرجع ذلك، وهو ما يتفاخر به الإيرانيون على نظرائهم العرب من الإسلاميين السنة، إلى ما منحته الخمينية لعموم الإسلام السياسي من انتقال من الانغلاق والتقوقع داخل فكرة الحاكمية وتطبيق الشريعة وثنائية دار الإسلام ودار الكفر، إلى المغالبة السياسية والدخول في الصراع على السلطة بشعارات العدالة الاجتماعية وتمكين المستضعفين في الأرض.
وعندما تُجرى المقارنات تُرجح حظوظ الإسلام السياسي الشيعي لنيل الأفضلية على نظيره السني، فقد أنجح الأول نموذج ثورته وتمكن من العبور بها إلى إقامة نظام حكم استمر أربعين عاما مكتسبا نفوذا داخل عدد من العواصم العربية، بينما فشل التفكير السني على أساس شرعي في تحقيق إنجازات كبيرة وممتدة في ما يتعلق بالحالة الثورية أو بامتحان السلطة والحكم.
وقوع أنظمة الحكم التي يديرها الإسلام السياسي الشيعي بشكل مباشر أو بالوكالة في مرمى الثورات والغضب الجماهيري مؤخرا انهيار لنظرية الحكم الأيديولوجية وفضح للخديعة الفكرية والثورية التي انطلقت من إيران في نهاية سبعينات القرن الماضي لتخرج مجمل الإسلام السياسي من قمقم الانعزال والنخبوية العقدية إلى التحشيد الجماهيري الواسع بذريعة امتلاك الخلاص للفقراء والمستضعفين.
أهدر الإسلاميون الأسس الفلسفية للنظرية الماركسية وأخذوا عن بعض الأنظمة الرأسمالية أسوأ تطبيقاتها من خلال استفادة طبقة معينة على حساب غالبية الشعب، وتكريس الثروة لدى طبقة فاحشة الثراء وحرمان الكادحين الذين يمثلون الغالبية.
وشكل تيار الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي، خلال تجربة حكمه الطويلة في إيران والقصيرة في مصر وبعض الدول العربية، خليطا تم المزج فيه بين أسوأ ما في النظريتين الرأسمالية والماركسية وتطبيقاتهما، فقد أخذ عن الأولى استغلال الآخر وتجويعه، واختزل التطبيق الماركسي في تقييد الحريات وفرض الرقابة الصارمة على حركة المواطن.
وبلغت نرجسية الإسلاميين حد إزاحة التيار التقدمي وأصحاب النقاء الفكري من التيارات الأخرى استنادا لقوة تنظيمهم، لمجرد إثبات أن لديهم مشروعهم الخاص، وما يطرحونه من مشروع عدالة اجتماعية مميز عن مفهومها الشيوعي تحت زعم أن التحرر فيها مادي والمساواة منقوصة بغرض احتكار تلك المفاهيم.
ولم يكن الإسلاميون مبدعين في المفاهيم التي أقاموا عليها خططهم للاستحواذ على السلطة، ولذا رسخوا من انغلاقهم ورفضهم للآخر ومنعوا كل أشكال التواصل مع التيارات الأخرى ومع الأفكار الفلسفية والتقدمية، وحاولوا إخفاء خلطهم الفكري والعداء للقيم الاشتراكية، من مساواة وعدالة اجتماعية، ومن جانب آخر للتصورات الليبرالية، من حريات فردية وديمقراطية وتداول سلمي.
وأثبتت الثورات المنادية بالمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وفرص العمل ضد إيران والعراق ولبنان أن الإسلاميين تحديدا لم يعبروا يوما عن ثورة الجماهير المحرومة والكادحة ومطالبها ولم يتبنوا يوما المفاهيم الاقتصادية الاشتراكية، إنما سعوا منذ البداية إلى اليوم للطائفية والمحاصصة واستغلال ثروات الشعوب وتطلعاتها للحياة الكريمة، بغرض تعزيز سيطرة الفئة الطبقية التي تمثلهم وتعزيز سيطرة رجال الأعمال المرتبطين به من خلال الهيمنة على الدولة.
تكتب ثورة الشعوب حاليا فصلا جديدا في مسيرة الثورات معلنة إفلاس وخديعة تيار الإسلام السياسي الذي طمس معالم المناهج والنظريات الثورية التقدمية تحت شعارات فارغة من المضمون وعجز عن تحقيق التنمية، وظلت هيمنته وممارساته على مدى عقود طويلة ضد تطلعات الملايين بعالم أفضل خال من الجوع وكبت الحريات والبطالة والفقر.
وعلى عكس ما جرى خلال الثورات التي أسهم فيها الإسلاميون في الموجة الأولى بغرض السطو عليها نتيجة قوة تنظيمهم، فإن الثورات الشعبية ضدهم في الوقت الراهن تجد صعوبة في إسقاط أنظمة حكمهم المؤدلجة والطائفية، فالحراك تغلب عليه التلقائية ويحتاج لأن تقوده قوة منظمة تحمل مشروعا سياسيا وفكريا متكاملا، والحضور الخافت للقيادات المناضلة التقدمية، نتيجة طبيعية لإفراغ الساحة على مدى عقود من مناضليها الحقيقيين لحساب الإسلاميين وتنظيماتهم.
انطلقت هذه الثورات من صفوف الشعوب بتلقائية لتعبر عن آمالها وآلامها، ومن شأنها تحقيق العديد من الإيجابيات، منها إعادة الاعتبار للشعوب واستعادتها ثقتها بنفسها وقدرتها على التغيير، لكن يظل التغيير نسبيا مع عدم وجود كيانات ثورية تقدمية منظمة تعبر عن حقيقة إرادة الشعوب وتصنع قراراتها وتترجم مطالبها.
ويشجع بروز الشباب كشريحة محركة للمجتمع وانحسار دور الأحزاب الأيديولوجية على استعادة القيم الثورية والانتصار لها من خلال نضال قوى تقدمية منظمة، قادرة على إحداث تغيير شامل وجذري في تركيبة المجتمع وفلسفته وأهدافه، بما يحقق فعليا مصالح الشعوب وتطلعاتها.
ويرتبط الإنجاز الثوري بالخاصية التي تحتاج إليها القوى التقدمية المتمثلة في قوة التنظيم والأداء الحركي الحزبي المنضبط، وهو الوسيلة المثلى لإنجاح ثورات الشعوب في مواجهة أنظمة الإسلام السياسي، وبها تجتمع مصداقية الفكرة وتماسك النظرية مع قوة التنظيم، لتحرير المظلومين والمستضعفين من دائرة العبودية والقهر إلى فناءات العدالة والمساواة والحرية.
العرب