عندما تأسست المملكة العراقية في أوائل العشرينات، لم يكن العراقيون قد عرفوا أو خبروا الحياة الحزبية أو المنظمات العمالية أو النشاط النقابي. وكان من أول ما سعى إليه أبناؤه المتنورون أن يبادروا إلى تطوير البلاد نحو هذه الحياة السياسية العصرية. جرت البادرة الأولى عام 1928 عندما تضافر عدد من الشباب الوطني واستطاعوا إقناع الزعيم السياسي الاشتراكي جعفر أبو التمن إلى الخروج من عزلته السياسية بعد النكسة التي تلقاها في تبني مشروع استصلاح العطيفية الزراعي. وبالتفافهم حوله قدموا طلباً لإقامة حزب سياسي باسم الجمعية الوطنية. رحبت الحكومة بالفكرة وأجازت الحزب الذي أعرب عن رغبته في العمل ضمن الوسائل الديمقراطية السلمية. وبعد اختيار أبو التمن لرئاسة الحزب آثر تغيير اسمه إلى «الحزب الوطني»، الذي لعب دوراً سياسياً كبيراً في توجيه سياسة العراق.
كان هذا الرجل قد سئم من الساسة المخضرمين وكبار السن ووجد في الجيل الجديد أمل البلاد. انبرى للتعاون مع الشباب وتعبئتهم لإقامة المنظمات السياسية والعمالية والمهنية. وكان في مطلعها نقابة المحامين وإجازة أول اتحاد عمالي.
واختير لرئاسة الاتحاد محمد صالح القزاز الذي لعب دوراً كبيراً في أنشطة الحزب الوطني وتعبئة العمال لشتى الحملات المتعلقة بحقوقهم. سرعان ما تأسست في بغداد عدة نقابات وجمعيات تعاونية. كان منها «جمعية عمال الصحف» و«جمعية سواق السيارات» و«النادي الوطني لمهندسي الميكانيك» و«جمعية تشجيع المنتوجات الوطنية» و«الجمعية التعاونية للحلاقين». ظهرت هناك حتى جمعية لباعة المخضرات. وأجازت الحكومة أخيراً لإقامة اتحاد نقابات العمال عام 1932.
بالطبع لم يكن لقادة هذه النقابات والجمعيات أي خبرة في العمل السياسي أو الاقتصادي مما يلزم لبناء قاعدة صناعية متينة للبلاد. وكان صالح القزاز مهتماً بالمعارك السياسية والمنازعات العمالية. لم تمض مدة طويلة حتى وجد القوم أنفسهم غارقين في التخبط والإضرابات والمنازعات العمالية التي عانى الجمهور من تبعاتها، كما حصل لإضراب عمال الكهرباء الذي دام نحو ثلاثين يوماً وتسبب في قطع الكهرباء عن المشتركين بعد أيام قليلة من اشتراكهم.
وكان من قرارات اتحاد العمال أن تقدموا بعريضة للملك تضمنت شتى المطالب الصعبة مع التهديد بإعلان الإضراب العام في كل البلاد. وعندما رفضت الحكومة تلك المطالب، بدأ العمال بإضرابهم في بغداد والكثير من المدن الرئيسية. تدخلت الأحزاب السياسية في الموضوع وحصلت للعمال بشيء من مطالبهم وأقنعتهم بالعودة للعمل.
الواقع أن كل هذا النشاط العمالي في العراق كان يعكس الوضع السياسي العالمي الذي اجتاح العالم في العشرينات والثلاثينات، وأدى إلى انهيار الأسواق وسقوط العملات. وبعين الوقت أعطى العراقيين هذه المسحة اليسارية التي استمرت من جيل إلى جيل في سائر ميادين نشاطاتهم وبلغت أوجها في الخمسينات. ولا شك أن الفوضى التي صاحبت ذلك النشاط وعانى منها الجمهور أعطت درساً في تحاشي زج السياسة في الصغير والكبير من شؤون البلد.