يريد كارتل الدولة/ السلطة المهيمن على القرار في العراق، تسويق فكرة أن استقالة الحكومة، الذي جاءت اضطرارا وليس اختيارا، كافية تماما لتلبية مطالب المحتجين، وكأن المشكلة التي أخرجت هؤلاء المحتجين إلى الشوارع، وجعلتهم يدفعون فاتورة دم حقيقية (أكثر من 400 ضحية و18 ألف مصاب)، هي مشكلة شخصية مع السيد عادل عبد المهدي، او مع مجلس الوزراء، وقد انتهت باستقالته، وليس مشكلة جوهرية تتعلق بالنظام السياسي نفسه، وبالكارتل نفسه.
لهذا تتسارع خطى هذا الكارتل، وفي محاولة منهجية لتثبيت الأمر الواقع، المتمثل باستمرار هيمنتهم، ونفوذهم، إلى الالتفاف على مطالب الجمهور، عبر محاولة تشكيل وزارة جديدة، بالطريقة نفسها التي تشكلت بها الوزارة المستقيلة، مع محاولة مفضوحة، لخداع الجمهور، عبر «سلق» قانوني الانتخابات، والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، مع الحرص على أنهما في النهاية سيخدمان مصالح الفاعلين السياسيين الأقوى. في الوقت نفسه تتسارع خطى الدولة الموازية المتحالفة مع هذا الكارتل، إلى إجهاض حركة الاحتجاج، بطريقة «ناعمة» هذه المرة، عبر الدخول إلى حركة الاحتجاجات نفسها، ومحاولة تقويضها من الداخل، وهو سيناريو سبق لرئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي إلى اعتماده في العام 2011 لإجهاض التظاهرات التي خرجت ضده، عندما عمد إلى دفع الموالين له، والمدفوعي الثمن، إلى التسلل إلى ساحة التحرير في بغداد، واحتلالها، وطرد المتظاهرين الحقيقيين خارجها (بدأت الخطوة الأولى لهذه الخطة مع دخول كتائب حزب الله، المرتبطة عضويا بإيران والحرس الثوري الإيراني، إلى ساحة التحرير كمتظاهرين يوم أمس الخميس)!
لقد كان مطلبا تغيير قانون الانتخابات، وتغيير مفوضية الانتخابات، مطلبين جوهريين بالنسبة لحركة الاحتجاج، ولكن ليس ثمة عاقل يعتقد أن هذه المطالب كانت تتعلق بانتخابات مجلس النواب القادم في العام 2022، وأن المحتجين كانوا مستعدين لدفع فاتورة الدم الباهظة من اجل انتخابات ستأتي بعد ثلاث سنوات! كما ليس ثمة عاقل يعتقد أن مجلس النواب الحالي، بوصفه عنصرا أصيلا في كارتل الدولة/ السلطة، مؤهل فعلا لإنتاج هذين القانونين! فهذا الكارتل كان حريصا، طوال السنوات الماضية على تشريع قوانين انتخابات تخدم مصالحه بشكل مباشر، ولعل آخرها ما فعله مجلس النواب القائم حاليا قبل أشهر، عندما أصر الفاعلون الرئيسيون فيه، على الإفادة من مواقعهم، ونفوذهم، لضمان «التزوير»، من خلال تعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات، عبر السماح باستخدام البطاقات الانتخابية البايومترية قصيرة الأجل (التي اعتمدت في انتخابات عام مجلس النواب 2014، وأثبتت فشلها الذريع، وكان عاملا حاسما في عمليات التزوير الواسعة في تلك الانتخابات، سواء من خلال استخدامها من قبل الغير للتسويد (التصويت بالنيابة)، أو من خلال إمكانية استخدامها للتصويت لأكثر من مرة واحدة)، بديلا عن البطاقة البايومترية طويلة الأجل (بطاقة الناخب التي تحوي صورة وبصمة ابهام الناخب) التي يمكن لها أن تحد من عملية التزوير!
إن مراجعة سريعة لقانون الانتخابات الذي تتم مناقشته حاليا في مجلس النواب، والذي يعتمد المحافظة كدائرة انتخابية، تكشف أنه صيغ على عجل، ومن دون أي انتباه إلى ما يمكن ان تنتجه من إشكاليات تتعلق بعدالة التمثيل، سواء على مستوى المواطنين ككل، او على مستوى المكونات! كما أنه لا يضمن تفكيك هيمنة الفاعلين السياسيين على المشهد السياسي بالكامل، بل على العكس فهو يكرس هذه الهيمنة، خاصة مع معرفة الجميع بأن الانتخابات في العراق هي نتاج لتزاوج بين السلطة والمال السياسي من جهة، والتأثير المباشر على الناخبين، والتزوير المباشر من جهة ثانية، وأخيرا الأداء المنحاز لمفوضية الانتخابات من جهة ثالثة.
يريد كارتل الدولة المهيمن على القرار في العراق، تسويق فكرة أن استقالة الحكومة، الذي جاءت اضطرارا وليس اختيارا، كافية تماما لتلبية مطالب المحتجين، وكأن المشكلة هي مشكلة شخصية
المشكلة الجوهرية في القانون المقترح هو تخفيضه لعدد أعضاء مجلس النواب من 329 نائبا حاليا، إلى 251 نائبا، في انتهاك صريح لأحكام الدستور العراقي التي قررت نائبا واحدا لكل 100 ألف نسمة، خاصة وأننا هنا أمام رقم اعتباطي تماما، لا يستند إلى أي معيار يمكن التحقق منه! والمفارقة هنا أن هذا التخفيض لم يشمل مقاعد الأقليات التسعة، التي تم تحديدها أصلا وفقا للمادة الدستورية (نائب عن كل 100 ألف نسمة)!
كما أن القانون يكرر ما جاء في قانون تعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات، أي انه لا يشترط البطاقة البايومترية طويلة الأجل كشرط من شروط الانتخاب، وهو بالتالي يفتح المجال واسعا أمام عمليات التزوير! كما انه يوسع، وبشكل غير منطقي، قائمة الشخصيات الممنوعة من المشاركة في الانتخابات، لنكون أمام حالة فريدة على مستوى العالم، وتتمثل في انتاج طبقة سياسية جديدة كل أربع سنوات! وهو يفقد أجهزة تسريع النتائج من أي قيمة عملية، لأنه يتيح إعادة العد والفرز اليدوي في حالة الطعن في صحة النتائج، وهو ما سيجعل الجميع يطعن في صحة النتائج. وهذا يعني أننا سنكون عمليا أمام مرحلتين لإعلان النتائج: الأولى إعلان النتائج المتحصلة وفق أجهزة تسريع النتائج، والثانية عملية إعادة العد والفرز اليدوي!
واخيرا يأتي القانون ببدعة فريدة، لا وجود لها في العالم اجمع، عندما يشترط أنه لا يمكن لأي مرشح فائز في الانتخابات البرلمانية أن يرشح وزيرا، او ان يشغل منصبا بدرجة وزير! من دون ان يخبرنا القانون عن جدوى هكذا مادة عبثية، سوى تلبية رغبات لا منطقية لبعض الفاعلين السياسيين الذين يريدون أن يتحول الوزير إلى موظف لدى «مالك الحزب»، وليس شخصية سياسية ينتخبها الجهور، ولها موقف سياسي!
أما مفوضية الانتخابات، فقد تواطأ كارتل الدولة/ السلطة في العراق، على الأقل منذ المفوضية الثانية، التي تشكلت في العام 2007، على أن تتحول إلى ممثلية للأحزاب، وليس إلى مفوضية مستقلة، وبتواطؤ صريح من الأمم المتحدة حينها! هكذا جاءت المفوضيات الثلاث التي أدارت الانتخابات في العراق، بداية من العام 2009 حتى اللحظة، موزعة بين الأحزاب الأقوى في مجلس النواب، وأجزم أن الأمر سيتكرر مع المفوضية الجديدة أيضا، والتي يراد لها أن تتشكل من قضاة مستمرين في الخدمة، ومن مستشارين (ليسوا قضاة بالضرورة) في مجلس الدولة. فتجربتنا مع القضاة الذين أداروا عملية العد والفرز في الانتخابات الأخيرة أثبتت أنهم كانوا جزءا من كارتل الدولة/ السلطة التي أدارت عملية التزوير واسعة النطاق، بل أنهم تجاوزوا مفوضية الانتخابات نفسها في ذلك/ وذلك عندما عمدوا إلى إعادة توزيع المقاعد لمصلحة بعض الفاعلين السياسيين في مخالف صريحة لنظام توزيع المقاعد المقرر (وهو ما أثبتته المحكمة الاتحادية لاحقا من خلال قراراتها بإعادة توزيع المقاعد مرة أخرى)!
والإشكالية الحقيقية هنا، ان هؤلاء القضاة سيكونون خاضعين عمليا لسلطة، وهيمنة، رئيس مجلس القضاء الأعلى، من خلال «اختيارهم» لعضوية المفوضية (لا يمكن أن تنطلي فكرة الترشيح المفتوح، والاقتراع، على أحد، فنحن سنكون امام عملية مقننة بالكامل لضمان فائزين محددين في النهاية!)، خاصة وأن هؤلاء القضاة يمكن أن يعودوا إلى الخدمة مرة أخرى بعد انتهاء دورة المفوضية البالغة خمس سنوات بموجب قانونها! كما أن هؤلاء القضاة سيكونون في النهاية مرشحين للأحزاب الأقوى في كارتل الدولة/ السلطة، خاصة وأن مسألة تعيين القضاة، وترفيعهم، كانت خاضعة دائما لاعتبارات سياسية! لهذا سنكون عمليا أمام ممثلية أخرى للأحزاب، لكنها مكونة هذه المرة من قضاة!
قلنا منذ البداية، أن الأزمة تتعلق بالنظام السياسي ككل، ومحاولة تقزيمها إلى وزارة مستقيلة، او قضية انتخابات، ليست سوى محاولة منهجية للالتفاف على حركة الاحتجاج، كما قلنا بوضوح ان صياغة لقانون انتخابات جديد، أو تشكيل مفوضية انتخابات جديدة، يمكنهما ضمان انتخابات عاجلة نزيهة وشفافة، يجب أن تنجزا بعيدا عن سطوة مجلس النواب الحالي، وأن هكذا مهمة يجب أن تكون من مهمات الحكومة المؤقتة التي اقترحنا تشكيلها، وفق الأطر الدستورية، على أن يتم ذلك بعد حل مجلس النواب لنفسه بالطريقة التي قررها الدستور. وبغير ذلك فان كارتل الدولة/ السلطة يستمر في المسار الخاطئ الذي ما زال مصرا عليه، من دون أدنى اهتمام إلى ما يمكن أن يستتبع ذلك من تكريس للأزمة القائمة، وإغلاق أي مخرج لحل عقلاني!
القدس العربي