العراق… الدولة الوطنية هي الحل

العراق… الدولة الوطنية هي الحل

تتسع حدة التباينات بين المرجعية الدينية في النجف من جهة، وإيران من جهة أخرى، مع كل أسبوع يمر من عمر انتفاضة العراقيين، وهو ما يضع القوى والأحزاب الدائرة في فلك إيران، في موقف غير مسبوق، ترجمته حالة الفوضى السياسية خلال الأيام الأخيرة في بغداد. ويأتي ذلك في وقت تتواصل التظاهرات في العراق، إذ احتشد عشرات الآلاف في الميادين والساحات العامة والشوارع الرئيسية في بغداد وجنوب ووسط العراق أمس، استجابة لدعوات أطلقها ناشطون عراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الساعات الماضية، وأكد المحتجون تمسكهم بمطالبهم الأساسية التي رفعوها منذ مطلع أكتوبر تشرين الأول الماضي، وانتشرت قوات الأمن العراقية في محيط مناطق التظاهرات من دون تسجيل حوادث.

وقبيل ساعات قليلة على انتهاء المهلة الدستورية لاختيار رئيس جديد للحكومة العراقية، ردت المحكمة الاتحادية العليا في العراق، على استفسار قدم لها من قبل رئيس الجهورية برهم صالح بشأن الكتلة البرلمانية الكبرى، والتي حصر الدستور فيها حق ترشيح رئيس للحكومة، إذ أكدت في بيان لها أن الكتلة الكبرى هي التي تشكلت بأكبر عدد من النواب في أولى جلسات البرلمان بعد الانتخابات.
وأدى هذا التأكيد من المحكمة إلى ارتباك القوى السياسية المختلفة وسمح مجدداً بتعدد تأويلات القرار، كون كل طرف ينسب لنفسه لقب الكتلة الكبرى، سواء تحالف “سائرون” بزعامة مقتدى الصدر، أو تحالف “الفتح” بزعامة هادي العامري.

وقالت المحكمة في بيان لها صدر ظهر اليوم، إنها “تلقت الخميس الفائت طلبا من رئيس الجمهورية بشأن تحديد الكتلة الكبرى، وأنها وبعد التدقيق والمداولة والرجوع إلى أوليات تفسيرها لحكم المادة (76) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ومضمونهما أن تعبير (الكتلة النيابية الأكثر عدداً) الواردة في المادة (76) من الدستور تعني إما الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة، أو الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية، ودخلت مجلس النواب وأصبحت مقاعدها بعد دخولها المجلس وحلف أعضاؤها اليمين الدستورية في الجلسة الأولى الأكثر عدداً من بقية الكتل، فيتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشحها بتشكيل مجلس الوزراء طبقاً لأحكام المادة (76) من الدستور وخلال المدة المحددة فيه”.

وأضافت “هذا ما استقرت عليه المحكمة الاتحادية العليا بموجب قراريها المذكورين آنفاً في تفسير المادة (76) من الدستور وببيان مفهوم الكتلة النيابية الأكثر عدداً”، مشيرة إلى أن “قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة، التشريعية والتنفيذية والقضائية المنصوص عليها في المادة (47) من الدستور، وبناء عليه تقرر المحكمة الاتحادية العليا التزامها بقراريها المذكورين انفاً”.

وفي يوم الجمعة الماضي، عا المرجع الديني العراقي، علي السيستاني، اليوم الجمعة، إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكّرة بعد سن قانون انتخابات منصف ومفوضية انتخابات مستقلة. ونقل ممثل السيستاني، في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي، عن الأول قوله “قد أشرنا في خطبة سابقة إلى أن الشعب هو مصدر السلطات ومنه تستمد شرعيتها كما ينص عليه الدستور، وعلى ذلك فإن أقرب الطرق وأسلمها للخروج من الأزمة الراهنة وتفادي الذهاب إلى المجهول أو الفوضى أو الاقتتال الداخلي هو الرجوع إلى الشعب بإجراء انتخابات مبكرة”.

ما يجري في العراق إنما هو في حقيقة أمره صراع بين إرادة الشعب العراقي بكل مكوناته، وبين الهيمنة الإيرانية على مفاصل القرار الأساسية في الدول والمجتمع العراقيين، وذلك منذ سقوط نظام صدام حسين الذي تسبب في تفتيت النسيج المجتمعي العراقي، وأدخل العراق والعرب والمنطقة كلها في دوّامة عنف، ما زالت نتائجها تتفاعل وتتفاقم.

ما يحصل في العراق اليوم هو اختزال لقرار الدم الذي اختاره النظام بعد خيار الفساد والنهب منذ عام 2003 إلى حد اليوم، ولهذا فإن اللحظة التاريخية انفتحت أمام الشعب، وساعة رحيل قاسم سليماني عن العراق لم تعد بعيدة، وسيبكي على ماضيه حين كان ينفذ مشروع تصفية الشباب وتهجير أهل الموصل وصلاح الدين وديالى والفلوجة وجرف الصخر من ديارهم، ويتنقل بين الروابي والوديان العراقية متباهيا ومتشفيا بشعب العراق، لكن جدّه كسرى سبق أن ودع مهزوماً قصره بمدينة المدائن شرق بغداد.

العراقيون اليوم في مخاضِ ثورةٍ شعبيةٍ واسعةٍ من أجل تحقيق أهداف وطنية عليا افتقدها العراق منذ سنوات طوال، وظهر أنّ بعض المسؤولين لم يستجيبوا لنداء الثورة، كونهم يدورون في حلقة منظومة واحدة، ولهم شبكاتهم ومصالحهم، مهما كانت انتماءاتهم السياسية. وهي حالة غريبة جداً أن يبقى الكلّ في طرف والشعب في طرفٍ آخر. ولكي يهرب النظام من جرمهِ، ابتدع تسمية الطرف الثالث! ولكن ثمّة من يلعب على الحبال كطابور خفي، يعلن تأييده الثورة ويخفي ولاءه للنظام. وعليه، ينقسم المجتمع العراقي على نفسه بين ثائرين ومناصرين، وبين متسلّطين وموالين. وهناك ملايين مع الثوّار الصامدين مع آخرين صامتين. ولكن هناك من لا يُستهان بهم من رجال دين طائفيين تافهين ومنتفعين ومرتزقة وفاسدين من عموم المجتمع، يتسمون بشخصياتهم المهزوزة وسايكولوجياتهم المريضة.

إن الحالة التي يعيشها العراق حالياً سببها الأساسي هو ضعف الدولة العراقية، الأمر الذي أتاح للنظام الإيراني التسلل إلى داخل بنية الدولة عبر مختلف الأحزاب والقوى والميليشيات التي ارتبطت به بأشكال عدة، ولأسباب مختلفة، حتى باتت جزءاً عضوياً من النظام المذكور نفسه، تسير بموجب الأوامر والاملاءات الآتية من جانب نظام ولي الفقيه، عبر مختلف أجهزته العسكرية والاستخباراتية.

أما التأثير الأمريكي على ترتيب الأوضاع العراقية، فيبدو أنه لم يكن بقوة وحجم الدور الإيراني. إلا أنه كان من الواضح أن التوافق بين الطرفين كان حجر الزاوية للتوافق على أسماء الرئاسات الثلاث، وتشكيل الحكومة. ولكن رغم ذلك التوافق، فإن تأثير إيران كان أكبر، وذلك بحكم تغلغلها، وقربها، وحجم تواجدها على الأرض العراقية، إلى جانب علاقاتها المباشرة مع فصائل الحشد والميليشيات العسكرية الأخرى، التي لم تتستر يوماً على خضوعها للنظام الإيراني، والتزامها بالتوجيهات والأوامر الأمنية التي تأتيها من قبل الأخير.

وقد تمكنت هذه الميليشيات من إبعاد القوى العراقية الوطنية التي كانت، وما زالت، تدعو إلى العمل الوطني العابر للحدود المذهبية، وهي الحدود التي ثبّتها ورسخها، واستثمر فيها النظام الإيراني، حتى انه استطاع نتيجة نفوذه هذا من إدخال الميليشيات المرتبطة به ضمن دائرة المنظومة العسكرية الدفاعية العراقية، تحصل على المال والسلاح من الميزانية العراقية، وتجنّد المواطنين العراقيين، ولكن القيادة تبقى بيد النظام الإيراني، وتكلف بمهمات لصالح الاستراتيجية الإيرانية.

ولكن الاحتجاجات الشعبية العراقية، خاصة في المناطق الجنوبية، في الناصرية والبصرة والنجف نفسها وبغداد، قد أماطت اللثام عما يجري، وبات الناس يطالبون علناً بكف يد النظام الإيراني عن العراق وأهله، ليتمكن العراقيون من إيجاد الحلول لمشكلاتهم بأنفسهم. وهي مشكلات معيشية، تربوية، صحية في المقام الأول، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة منذ سقوط النظام السابق من معالجتها، رغم الإيرادات المالية الخيالية التي من المفروض أن العراق يحصل عليها لقاء تصدير النفط. ولكن يبدو أن حالة الفوضى المنظمة التي يعيشها البلد، مكّنت الفساد من تحويل تلك المبالغ إلى حسابات المسؤولين الخاصة؛ أو إلى حسابات تدور حولها الشبهات من ناحية كونها تخدم الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، بما في ذلك دعم نظام بشار الأسد في سوريا في مواجهة ثورة الشعب السوري.

المشكلة في العراق عميقة بنيوية، لها علاقة بتركيبة الدولة، وقدرة الميليشيات على الضغط والتدخل، وفرض الإملاءات على الحكومة بدعم مباشر وغير مباشر من النظام الإيراني.

وقد كانت أوضاع المنطقة غير المستقرة، ومزاعم محاربة الإرهاب، من المبررات التي اعتمدتها الحكومات التابعة لإيران من أجل التهرب من استحقاقات المساءلة والمحاسبة. ولكن بعد أن انكشفت حصيلة التراكمات السلبية الهائلة، تبين للناس أن ما يجري في العراق ليس نتيجة الوضع غير المستقر في المنطقة، بل أنه سببه؛ وأن مزاعم محاربة الإرهاب الداعشي تحوم حولها الكثير من الشكوك، خاصة إذا تابع المرء خريطة الهجمات الداعشية في العراق، ودقق بإمعان في طبيعة الجهات المستفيدة من فزّاعة داعش.

ومع تشكيل حكومة عادل عبد المهدي، توقع الجميع نوعاً من الاستقرار، وفُهم أن التوافق على عبد المهدي كان حصيلة التوافق الأمريكي – الإيراني؛ ولكن يبدو أن التراكمات السلبية الضخمة التي واجهتها حكومة عبد المهدي في سائر الميادين الحياتية تقريباً كانت أكبر من طاقة الحكومة المعنية، لذلك كان الانفجار الشعبي الكبير الذي وضع الجميع أمام مسؤولياتهم. فقد طفح الكيل، ولم يعد في وسع الناس المزيد من التحمل.

ويبقى السؤال: وما هو الحل؟

الحل الأنجع والأفضل للعراقيين بكل انتماءاتهم هو الحل الوطني العراقي، وأساس هذا الحل هو بناء نظام سياسي وطني، يضمن حقوق سائر المواطنين من جميع الانتماءات، وفي جميع المجالات من دون استثناء على قاعدة احترام الخصوصيات، وضمان الحقوق، واعتماد مبدأ التعددية بمعناه الواسع ضمن إطار الوحدة الوطنية التي تقطع الطريق أمام كل التدخلات الخارجية، لتكون مصلحة العراقيين وبلدهم على رأس قائمة الأولويات لأية حكومة عراقية قادمة، منبثقة عن برلمان منتخب عبر الإرادة الحرة للمواطنين.

أما أن يظل العراق حديقة خلفية للنظام الإيراني، يمارس من خلالها سياسة زعزعة أمن المنطقة واستقرارها، ويتدخل في شؤون دولها، ويمزق مجتمعاتها، فهذا معناه أن الأزمة ستستمر، بل وستشتد أكثر، وسيكون المستقبل القاتم هو الذي ينتظر العراق، وربما المنطقة كلها.

ومن هنا تأتي أهمية الموقف الدولي، والأمريكي تحديداً باعتباره الأكثر تأثيراً من غيره في العراق. فالمطلوب هو التدخل، ومنع النظام الإيراني والميليشيات التابعة لها من الفتك بالنشطاء، وتهديد المتظاهرين والمعتصمين، والمراهنة على عوامل الوقت والاحتواء وتمزيق الصفوف، وإثارة النزعات المذهبية والمناطقية.

إن على واشنطن أن تفعل ما في وسعها لإرغام طهران، على الأقل، على الحد من وتيرة عملياتها ونطاقها، واختيار أهداف أقل ربحية، واللجوء إلى وسائل أقل فعالية لتنفيذ هجماتها. وقد تقلل هذه المقاربة من التكاليف التي قد تفرضها طهران ومن احتمال التصعيد أيضا، ولكي يحدث ذلك، على إدارة الرئيس دونالد ترامب تجنّب التصريحات والخطوات، التي تقوض الردع، ومواءمة غايات الإستراتيجية الأميركية وسُبلها ووسائلها بنحو أفضل، وتضليل طهران بصفة أكبر بشأن حسابات التكلفة والمنفعة، وإظهار درجة أكبر من قبول الولايات المتحدة بالمخاطر، وطرح تهديدات من اتجاهات متعددة أمام طهران، لكي تضطر بنحو دائم إلى إعطاء الأولوية لردودها. وعند التعامل مع الجهات الفاعلة الصعبة مثل إيران، على واشنطن أن تكون مستعدة في بعض الأحيان لتصعيد الموقف من أجل وقف هذا التصعيد وتهدئة الوضع في نهاية المطاف، في السعي نحو هدف حل الأزمة بصفة غير عنيفة.

 ملخص القول: بات العراقيون بأمسّ الحاجة لأن ينسوا خلافاتهم، وأن يتحدوا الآن باصطفاف وطني واحد، وباتجاه هدفٍ واحد، لاستعادة وطن عزيز ذبحه الأشقياء والعملاء والأغبياء والملالي، وكلّ الفاسدين والطفيليين الطارئين والمارقين والمرتزقة الذين عاثوا بالعراق فساداً، ووصل طغيانهم إلى قتل العراقيين وخطف النسوة في الشوارع، فليكن كلّ العراق كتلة واحدة متراصّة ضدّ هذه الطغمة الباغية الحاكمة، وكل من يناصرها زورا وبهتانا.

الدولة الوطنية العراقية التي تكون بكل أبنائها، ولكل أبنائها، الدولة التي تأخذ الخصوصيات بعين الاعتبار، وتعتمد النظام السياسي والإداري المنسجم مع طبيعة وحاجات المجتمع العراقي، وتأخذ الهواجس والتجارب السابقة بعين الاعتبار، هي المخرج. أما الاستقواء بالخارج، فهو لن يؤدي إلا إلى المزيد من التباعد بين العراقيين، وتفاقم المشكلات إلى حد تصبح عنده كل الاحتمالات الضارة متوقعة.

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية