أصبح المجتمع الدولي متردِّداً في المشاركة في أنشطة إعادة الإعمار خوفاً من تكرار التجارب المريرة السابقة التي طعنت خاصرته خلال العقدين الأخيرين، وساهمت تجربة إعادة إعمار العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003 بشكل كبير في تردُّد وعزوف العديد من الأطراف الدولية الفاعلة عن بذل جهود أكبر من أجل إعادة إعمار الدول التي مزَّقتها الحروب.
وحسب الأرقام، فقد تمَّ إنفاق أكثر من 220 مليار دولار على مشروعات إعادة بناء العراق خلال الفترة الممتدة ما بين 2003 و2014، وعلى الرغم من تلك المبالغ الضخمة التي تمَّ إنفاقها والمشاريع والبرامج الشاملة التي تمَّ تنفيذها لم تسلم كل تلك الجهود من الانتقادات ولم تخلُ من النقائص، وهذا ما شجَّع المجتمع الدولي بشكل أساسي على التركيز على الإغاثة الإنسانية وبدرجة أقل على المشاركة في عمليات إعادة الإعمار التي تتطلَّب التزاماً كبيراً على المدى المتوسط والطويل.
تُثبت تجارب المعاناة الإنسانية والتهجير الدائم الناجم عن الاضطرابات في الشرق الأوسط أنَّ تكلفة التقاعس عن إعادة الإعمار المبكِّرة يمكن أن تكون كبيرة، لأنّ الإغاثة الإنسانية وحدها لا تعالج الأسباب الجذرية للصراع والعنف، بينما يساهم النجاح المبكِّر لإعادة الإعمار بشكل كبير في تعزيز الاستقرار الذي يشكِّل اللبنة الأساسية للانتعاش الاقتصادي. وعليه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن: ما هي الدروس الأساسية المستخلصة من تجربة إعادة إعمار العراق؟
يكمن الدرس الأول في الاعتماد الكبير على الإجراءات التي يتّخذها المجتمع الدولي على المؤسسات الوطنية، كما يتوقَّف تحقيق نتائج إيجابية مبكِّرة على مدى فعالية المؤسسات الوطنية ونزاهتها.
ويشير تقرير التدقيق الأميركي الصادر عن معهد الأمن العالمي (Global Security Institute)، إلى أنّ البنية التحتية التي موَّلها المانحون والمنجزة منذ عام 2003 قد انهارت بالفعل بحلول عام 2005 بسبب عدم المشاركة الكاملة للمؤسسات العراقية خصوصاً من ناحية الصيانة، وكذا الانقسام المكثَّف في البيئة السياسية، ونقص الشركاء الوطنيين الشرعيين للعمل معهم.
ولا يمكن إنكار دور فرض الحلول الخارجية في إنتاج ردود فعل عكسية من المؤسسات المحلية، لذلك يتعيَّن على الجهات الدولية الفاعلة تجنُّب إضعاف المؤسسات الوطنية ورأس المال الاجتماعي المتعلق بها، فقد أثَّرت القرارات الأجنبية التي استهدفت حلّ الجيش العراقي وإنشاء مجلس الحكم على أساس الانقسامات الطائفية العرقية بشكل سلبي ودائم على المؤسسات الوطنية العراقية، الأمر الذي أدَّى إلى إجهاض جهود إعادة الإعمار قبل ولادتها من رحم التعاون الدولي لدعم العراق.
ويتمثَّل الدرس الثاني في قلّة مرونة الجهات الدولية الفاعلة في التعامل مع الطبيعة غير المستقرّة والمعقَّدة لإعادة إعمار العراق والتكيُّف مع الظروف المتغيرة باستمرار خصوصاً عند مواجهة مخاطر أمنية متزايدة، لذلك يجب على المانحين والمنظمات الدولية إيجاد طرق أفضل للتفاعل مع النظراء العراقيين في الظروف الحرجة، من أجل تعزيز فعالية المساعدة المقدمة.
ويحتاج المجتمع الدولي إلى وضع آلية جديدة لتنسيق الاستجابة لتحديات الأمن عن طريق المساهمة في معالجة الأسباب الجذرية للعنف والتطرُّف في العراق واتّباع نهج تنموي يساهم في توفير الفرص الاقتصادية خاصة بين الشباب العراقي، إذ تؤكِّد نتائج استطلاع رأي الشباب العربي لسنتي 2017 و2019 العلاقة الوطيدة بين البطالة واحتمالات التطرُّف.
ويعتبر الشباب العربي أنّ البطالة والتطرُّف هما أكبر مشكلين يعيقان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل عام والعراق بشكل خاص. ولكون الأمن والتنمية في العراق متشابكين بشكل لا ينفصم، ينبغي على الجهات الدولية الفاعلة في إعادة الإعمار في العراق الحرص على خلق برامج لتدريب وتشغيل الشباب لا سيَّما في المناطق المتضرِّرة.
ويرتبط الدرس الثالث بالمساءلة التي لها تأثير كبير على نتائج إعادة الإعمار، حيث يمكن أن يكون هناك مجال للمساءلة المزدوجة للمانحين في بلدهم الأصل والبلد المستفيد من المساعدات، وهذا ما سيضمن تحقيق نتائج ايجابية على أرض الواقع. فغالباً ما يتم تقويض المساءلة المحلية عندما يأتي تمويل إعادة الإعمار من موارد غير مرتبطة بالسكان المحليين.
فعلى سبيل المثال، تمَّ تمويل غالبية ميزانية إعادة الإعمار العراقية من تمويل المانحين غير المرتبط بأيّ صلة مباشرة بالسكان العراقيين، وهذا ما أعطى للعراقيين القليل من الحوافز لفحص سيرورة الإنفاق على إعادة الإعمار باستمرار، لذلك يجب على الجهات الخارجية الفاعلة بذل المزيد من الجهود، جنباً إلى جنب مع الجهات الفاعلة العراقية، لتعزيز المساءلة الهادفة إلى الاستخدام الأمثل لأموال إعادة الإعمار.
وتتمثَّل أوّل خطوة لتعزيز المساءلة في العراق في إعادة النظر في آلية توزيع الموارد النفطية مثلاً من خلال تحويل جزء من الإيرادات الحكومية ذات الصلة بالموارد الطبيعية بشكل موحَّد كمدفوعات مباشرة للمواطنين العراقيين بدلاً من تقديمها لهم كسلع عامة قد لا تصلهم منفعتها أبداً، وخصوصاً أنّ العديد من المواطنين لا يستفيدون من الدعم الكبير للوقود نظراً لعدم امتلاكهم سيارات وعدم تنقُّلهم بشكل كبير بين المدن العراقية.
وللأسف، يعتبر قسط كبير من الإنفاق غير فعّال في تحسين حياة العراقيين الذين قد يكونون أفضل حالاً في حال استلموا جزءاً من الموارد النفطية بدلاً من توجيه الحكومة تلك الموارد في عملية الإعمار التي لم تمنح للمواطن العراقي أيّ إمكانية للمساءلة حتى الآن.
وتحتاج الجهات المقدمة للمساعدات المالية من أجل إعادة إعمار العراق إلى حجج قوية تدلّ على وجود نظام مساءلة جيّد يمكِّن المواطنين من إبداء وجهات نظرهم وتصوُّراتهم حول المراحل التي وصلت إليها عملية بناء أو تحسين البنية التحتية، لأنّ ذلك سيشجِّع المانحين على تخصيص المزيد من الأموال لإعادة إعمار العراق.
خلاصة القول إنّ انتهاء الحرب والقتال ضدّ داعش يضع كلاً من الحكومة العراقية والجهات الدولية الفاعلة أمام تحدٍ آخر أصعب يتمثّل في عملية إعادة الإعمار التي تتطلَّب التعلُّم من أخطاء الماضي واستخلاص الدروس التي تؤكِّد ضرورة تعزيز النسيج المؤسساتي العراقي، وتحسين مرونة الجهات الدولية الفاعلة في التكيُّف مع الظروف المتغيرة باستمرار لا سيما من ناحية الاستقرار والأمن، وكذا بناء آليات أقوى للمساءلة، وكل هذا من أجل ضمان نجاح جهود ومساعي إعادة الإعمار.
العربي الجديد